الجمعة 3 أكتوبر 2025 02:42 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الأديبة مريم هرموش تكتب: المعرفة والوعي: بين تخليد الذاكرة وغياب الروح!

الكاتبة اللبنانية مريم هرموش
الكاتبة اللبنانية مريم هرموش

قبل أيام، وجدت نفسي مشدودة إلى برنامج تلفزيوني يناقش "فكرة تخليد الإنسان". كان العلماء يتحدثون عن مشاريع طموحة تسعى إلى نقل كل ما يحتويه العقل من معلومات وذكريات إلى حاسوب، وكأن استنساخ الذاكرة يكفي لاستنساخ الإنسان ذاته. الفكرة بدت براقة، لكنها أثارت في داخلي سؤالًا بديهيًا:

هل يمكن حقًا أن نخلق إنسانًا بمجرد جمع معارفه وذكرياته؟
أدركت أن الجواب هو: لا. لأن ما يُنقَل هو المعرفة، بينما ما يعجزون عن لمسه هو الوعي.
المعرفة أشبه بأرشيف ضخم: كتب محفوظة في خزائن، أو بيانات تُحمَّل على خوادم. هي ما نتعلمه من التجربة والقراءة والذاكرة الجمعية. يمكن أن يُختزل كله في ملف رقمي، كما تُختزل مكتبة في قرص صغير.
إلا أن الفيلسوف فرانسيس بيكون قال يومًا: المعرفة قوة، لكنها قوة يمكن أن يمتلكها أي أحد بمجرد الاطلاع. فهي خارجية الطابع، قابلة للتبادل والنسخ.
أما الوعي فهو شيء آخر. الوعي ليس الأرشيف، بل اللحظة التي نفتح فيها الأرشيف ونشعر به ينبض فينا. هو ما يجعلنا نعيش المعلومة لا كمجرد حقيقة عقلية، بل كإدراك حيّ يمسّ القلب والروح.
عل سبيل المثال: يمكن أن يحتوي جهاز التلفزيون على أحدث التقنيات، لكنه بلا معنى ما لم يلتقط الإشارة. عندها فقط تتحول الشاشة إلى حياة. هكذا هو الوعي: الإشارة الخفية، أو الواي فاي الكوني الذي يمدّنا بالاتصال بالعالم.

قال ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود. لكن قد نعيد صياغته: أنا أعي إذن أنا حي. فالتفكير يمكن أن يكون آلة، أما الوعي فهو الذي يمنح التفكير عمقه الإنساني.

قد يظن البعض أن الوعي نتاج داخلي بحت، لكنه أقرب إلى استقبال خارجي يحدث فينا. الشرارة قد تأتي من كتاب، كلمة، أو مشهد، لكنها لا تصبح وعيًا إلا إذا تجلّت في داخلنا كحضور يقظ. كما عبّر بوذا: المعرفة أن النار تحرق، أما الوعي فهو أن تشعر بالاحتراق في جسدك

العلماء قد ينجحون يومًا في نقل مكتبة عقولنا إلى حاسوب خارق، لكنهم لن ينقلوا ذلك "النور الخفي" الذي يجعلنا نحن. سيُخلَّد الأرشيف، لكن لن يُخلَّد الكائن
فالإنسان ليس ذاكرة فحسب، بل هو نافذة مفتوحة على الوعي، وتلك النافذة لا يمكن نسخها، لأنها ليست ملكًا لنا وحدنا، بل انبثاقًا من سرّ أكبر يمرّ بنا ويجعلنا أحياء

c30bceaa26c5.jpg
d2fcafaf3245.jpg
هرموش/مريم/استنساخ