أيمن سلامة : القدس مُحتَلة رضيت اسرائيل أم أبت .


ما فتئت إسرائيل حتي اللحظة الآنية تتطاول تطاولا كالحا وتزعم أن اتفاقية جنيف الرابعة لا تنطبق علي مدينة القدس، وتدفع بأن القدس شأنها شأن الأراضي الفلسطينية المحتلة لم تخضع لسيادة دولة ذات سيادة، ومن ثم تعدم إسرائيل في هذا الصدد انطباق قانون الاحتلال وسائر المواثيق الدولية للقانون الدولي الإنساني علي مدينة القدس المحتلة.
اتخذت اسرائيل منذ أكتوبر عام 1967 موقفا ثابتا مفاده أن اتفاقية جنيف الرابعة الصادرة في 12 أغسطس عام 1949، هي بحكم القانون لا تنطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة و القدس، وأن إسرائيل تقوم بأعمال " الإدارة " لهذه الأقاليم ، وبالتالي فإنها لا تدخل في نطاق اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949 ، وقانون الاحتلال الناجم عن الحرب.
ولتبرير موقفها لجأت إسرائيل إلى حيلة قانونية ومحاولة لتقديم مبررات فقهية مبنية على وهم وفراغ وخوار ، حيث قامت بتطوير نظرية "صاحب الحق الغائب" لتعزيز حججها بعدم الامتثال لاتفاقية جنيف الرابعة وقانون الاحتلال الناجم عن الحرب .
وتقول هذه النظرية بأن الأردن ومصر ليستا هما الدول ذات السيادة الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، ونظرا لعدم وجود "صاحب الحق" الذي ستعود إليه الأراضي فإنه بإمكان إسرائيل أن تقوم بحيازة الأراضي الفلسطينية المحتلة نظرا لأنها تمتلك وضعا أقوى نسبيا فيما يتعلق بملكية هذه الأراضـي .
هذا الطرح الصهيوني يُعد تفسيرا شاذا للمادة الثانية من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على ما يلي : "إن هذه الاتفاقية تطبق على جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة..." ، وهكذا قيل أن الهدف والغرض من قانون الاحتلال الناجم عن الحرب هو حماية حقوق الطرف المنزوع السيادة والذي يمتلك سند قانوني صحيح .
ولذلك، فقد زعمت إسرائيل بأنه نظرا لأن مصر والأردن لم تكونا الدولتين صاحبتي السيادة المشروعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل عام 1967 نظرا لعدوانهما غير القانوني المزعوم على إسرائيل في عام 1948، لذلك فإن تلك المناطق لا يمكن ان تكون تابعة لأحد "الأطراف السامية المتعاقدة ".
إلا أنه تم الرد وبقوة على الادعاءات الإسرائيلية في هذا الخصوص من قبل فقهاء و أساتذة القانون الدولي الذين وصفوها بأنها "متكلفة ومصطنعة في طبيعتها" ، ولا تحظى باحترام "المـؤهلين تأهيلا عاليا" أو "المجتمع الدولي المنظم" ، كما أنها لم تتلق أي دعم من المجتمع الدولي .
أصدر مجلس الامن بيانا رئاسيا في 26 أغسطس عام 1988 ، أفاد بأن "اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 تنطبق على الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 ، وحين أصدر الكنيست الإسرائيلي تشريعه الأخرق " القانون الأساسي " في عام 1980باعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ، صوت مجلس الأمن ضد التشريع الإسرائيلي الأخرق ، وكانت نتيجته 14 مقابل لا شيء مع امتناع عضو واحد عن التصويـت ، وألقى مجلس الأمن باللوم على إسرائيل لقيامها بسن "القانون الأساسي" المتعلق بالقدس ، والذي تبين أنه يشكل انتهاكا للقانون الدولي ولا يؤثر على استمرار تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة .
إن الجمعية العامة للأمم المتحدة أكدت مجددا على أن إسرائيل ملزمة بالالتزامات الواردة في اتفاقية جنيف الرابعة فيما يخص الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وفي الإعلان الصادر في 5 كانون الأول/ديسمبر 2001 أعرب المؤتمر الدولي للأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة عن قلقه البالغ إزاء تدهور الحالة الإنسانية ، وأكد من جديد شمول الاتفاقية للأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية ، وكما جدد التأكيد على ضرورة الاحترام الكامل للاتفاقية في هذه المناطق ، ولعله من الأهمية بمكان هنا ذكر تعبير محكمة العدل الدولية في هذا الصدد ، والذي أكد من جديد على الأهمية القصوى للقانون الإنساني الدولي .
"لا مرية أن عددا كبيرا من قواعد القانون الإنساني القابلة للتطبيق في النزاع المسلح هي أساسية بالنسبة لاحترام للإنسان و"الاعتبارات الإنسانية" على حد تعبير محكمة العدل في حكمها الصادر في 9 نيسان/أبريل 1949 في قضية قناة كورفو ( تقارير محكمة العدل الدولية 1949 ، ص 22) ، وإن اتفاقيات لاهاي وجنيف تتمتعان بانضمام واسع للدول أعضاء منظمة الأمم المتحدة ، إضافة إلى ذلك فإنه يتعين على جميع الدول أن تلتزم بهذه القواعد الأساسية سواء كانت أو لم تكن قد صادقت على الاتفاقيات التي تتضمنها ، لأنها تشكل مبادئ القانون العرفي الدولي... وتشير هذه القواعد إلى التطبيق العادي وإلى السلوك المتوقع من هذه الدول ".
وهكذا فإن امتثال إسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب المؤرخة في 12 أغسطس عام 1949 ليس مبني على أساس اختياري لتفسيرات أحادية الجانب ، ولذلك فإن حصر الأنشطة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب المؤرخة في 12 أغسطس عام 1949 وغيرها من أحكام القانون الدولي ذات الصلة ستشكل قائمة طويلة نظرا لأن إسرائيل انتهكت تقريبا كل حكم من أحكام اتفاقية جنيف الرابعة.
ذكرت المحكمة بأن اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب المؤرخة في 12 أغسطس عام 1949 قد صادقت عليها إسرائيل في السادس من شهر يوليو سنة 1951، وأن الأردن طرف أيضا في هذه الاتفاقية منذ التاسع والعشرين مايو عام 1951، وأن أيا من الدولتين لم تتحفظ على أي حكم من أحكام الاتفاقية.
أكدت المحكمة أيضا أنه إذا لم تكن إحدى دول النزاع طرفا في هذه الاتفاقية، فإن دول النزاع الأطراف فيها تبقى مع ذلك ملتزمة بها في علاقتها المتبادلة، كما تلتزم بالاتفاقية إزاء الدولة المذكورة إذا قبلت هذه الأخيرة أحكام الاتفاقية وطبقتها.
وفضلا عن ذلك، فإنه بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في عام 1967،أصدرت السلطات الإسرائيلية الأمر رقم 3 الذي نص في مادته 35 على أنه: "يجب على المحكمة العسكرية أن تطبق أحكام اتفاقية جنيف الصادرة بتاريخ الثاني عشر من أغسطس 1949 المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، وذلك في ما يتعلق بالإجراءات القضائية، وفي حالة عدم تلاؤم هذا الأمر التشريعي مع أحكام الاتفاقية، فإن هذه الأخيرة هي التي تسبق".
صَدحت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري المتعلق بالآثار القانونية عن تشييد جدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة " عام 2004، حيث قررت المحكمة أن: "ولكي تبين المحكمة الآثار القانونية الناشئة عن تشييد الجدار علي الأراضي الفلسطينية المحتلة، عليها أولا أن تحدد إن كان تشييد الجدار ينتهك القانون الدولي أو لا ينتهكه. وللقيام بذلك، ستجري المحكمة أولا تحليلا تاريخيا مقتضبا للوضع القانوني للأرض محل النظر منذ الفترة التي كانت فيها فلسطين جزءا من الإمبراطورية العثمانية وكانت في نهاية الحرب العالمية الأولي .
خلال هذا التحليل، تذكر المحكمة الأعمال العدائية عامي 1948-1949 ، وخط الهدنة بين القوات الإسرائيلية والعربية بموجب اتفاق الهدنة المؤرخ 3أبريل 1949 بين إسرائيل والأردن، والمشار إليه "بالخط الأخضر" وفي نهاية تحليلها، تلاحظ المحكمة أن إسرائيل احتلت في عام 1967 الأراضي الواقعة بين الخط الأخضر والحدود السابقة لفلسطين زمن الانتداب خلال النزاع المسلح بين إسرائيل والأردن، وبموجب القانون الدولي العرفي، كانت هذه الأراضي بناءً علي ذلك أراض محتلة وكان لإسرائيل فيها وضع السلطة القائمة بالاحتلال، ولم تعمل الأحداث اللاحقة في تلك الأراضي على تغيير هذا الوضع، وتستنج المحكمة أن جميع هذه الاراضي (بما فيها القدس الشرقية) مازالت أراض محتلة ومازالت إسرائيل لها وضع السلطة القائمة بالاحتلال."
ختاما، لم تلق الفريات الإسرائيلية الزاعمة بعدم انطباق اتفاقية جينيف الرابعة لمعاملة السكان المدنيين تحت الاحتلال أي قبول لدي الفقه و القضاء الدوليين ، ولن تحيد المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها التي شرعت فيها بخصوص جرائم المستوطنات الإسرائيلية – تحديدا – عن ما ذهبت إليه محكمة العدل الدولية عام 2004 وكافة الثقات من فقهاء القانون الدولي .