الكاتب الصحفي مصطفى جمعة يكتب:باكو...زبدة التاريخ وعسل الايام


عندما هبطت «الطائرة» في العاصمة الاذربيجانية باكو لم يكن استقبالها في اكبر قاعات مطار حيدر علييف الدولي حدثا عاديا هناك وانما لحظة تاريخية حملت الزمان في مسارها ليولد الزمن من جديد في بلاد كان فتح الاجداد لها انجازا لمسناه في كل مكان فيها كشاهد لعمق حضارتنا الضاربة بجذورها في عمق الزمن وعظمتها. ولا غرابة من ذلك، فقد كانت هذه البلاد مركز اشعاع انساني للعالم في مختلف اوجه العلوم التي اذدهرت على هذه الأرض كأقدم الحضارات وأعرقها ولذلك تجد الانسان فيها مسكون بالزمان في علاقته مع ذاته ومع العالم المحيط به.
وكانت الرحلة ومضة حلم وكأن قائد الطائرة التي حملتنا إلى مدينة «النار والثلج» يرد على معاناة هوميروس في مقطع من مقاطع النشيد الثالث من الأوديسة «هناك حيث لا تستطيع الطيور ان تعبر في سنة، هكذا هي الرحلة بعيدة ورهيبة».
وكما يقولون ان تاريخ البشرية صنعته الشعوب المتحرّكة، لا المقيمة في الأرض من اجل هذا كانت الطائرة عملاً حضارياً فاق في مداه الانجازي أكبر المكاسب الحضاريّة التي انجزها الانسان لانها كانت تحرراً من عقبات الأرض ومتهات البحار للتفتيش عن حياة أجمل وأغنى، والبحث عن آفاق جديدة، وعدم الاكتفاء باليابسة.
ويعد الطيران واحدا من المكاسب الاربعة التي حققتها الانسانية على مر التاريخ للتعبير عن آماله وتطلعه الى المستقبل حيث كان بناء المنازل بالحجارة لتكون ثابتة على مر الازمان، كرمز لقهر الزمن والتغلّب عليه، ثم القوس والنشّاب، كسلاح موجه يقهر المسافات البعيدة ويصل الى الخصم، ثم السفينة البحريّة واخيرا الطائرت التي تطوي الأفق وتقرّب الأبعاد فتعطي الحياة رونقاً وبهاءً أكثر ثراء في المعالم والمواقع والأجواء المتنوعة من أجل ثقافة الانسان، التي تقاس على قدر ثقافة أفرادها وتنوعها.
و تتميز مدينة باكو بالطابع المعماري الفريد، حيث يختلط القديم الموغل في القدم والمتمثل في القلاع والأسوار والمباني الأثرية مع احدث ما جاء به فن البناء والتشييد من هندسة المباني والطرق والذي تراه في الأبراج العالية والفنادق ذات الخمس نجوم كما يتخالط الماضي والحاضر بل المستقبل في تشيد المباني الحكومية والمسارح ذات الطابع الروسي مع الشوارع الواسعة والانفاق المتشعبة حيث يوجد بها سكة حديد ومترو انفاق وحدائقها الواسعة وحزامها الأخضر من الأشجار الذي يلف المدينة باكو من جميع الجهات.
باكو تاريخ طويل وعريق يجمع العديد من القوميات والأعراق، وتحتوي على العديد من الآثار التي شيدتها العرقيات المختلفة التي تعاقبت على المدينة من العرب المسلمين والأتراك والصفويين والألبان والأذريين هي ايضا ميناء مهما من الموانئ المطلة على بحر قزوين وتقع على الشاطئ الشمالي من شبه جزيرة آبشوران ويعود تاريخ المدينة الى للألفية الأولى قبل الميلاد.
ومدينة باكو مثلها مثل كل المدن لها ذكريات وآمال أشكال وألوان وملامح وهويات، ولكنها لا تبوح مثلما يبوح البشر رغم انها هي امتداد لأعمار الناس وروح المكان تفرض على اهلها ان يكونوا متميزين، وتدفعهم لكي يستمروا في الأمل والعمل لان المدينة تتسع كلما اتسعت أحلام من يسكنها ورغم انها موغلة في القدم الا انها تدفعك الى التفكير في المستقبل ومن اجل ذلك يجب وانت تجول فيها ان تنصت لحديث ذكرياتها جيدا، وتبحث عن اشاراتها بين أزقتها، وعلى صفحات أرصفتها المنتشية بين أوراق الشتاء المكسو باثواب الثلوج.
وباكو مدينة تعكس خيال البشر في مدينتهم فمن الناس من يبني فيها مدينة من حجر، ومنهم من يبني مدينة من ورق، منهم من يبني مدينة من حب لانها ببساطة تتلاقح فيها العقول المختلفة، وتنسجم فيها الآراء المتنافرة، وتتلاءم فيها القلوب المتباعدة وتساعد على احترام الآخر، أيا كان لونه أو دينه.
وباكو مدينة متسامحة تفتح ابوابها للغرباء وتبتسم بادب في وجوه زوارها وتمنحهم اكلها ومشاريبها وهي كالنساء مجنونة لكن متآلقة بالبهاء، صامتة لكن حكيمة، صاخبة لكن متسامحة، جميلة لكن عاقلة، هكذا وصفها مرشدنا السياحي المدهش سليمانوف الذي يعد موسوعة متنقلة لبلاده التي هو عاشق لها حتى الوله بجمالها وعراقتها مفتون بميادينها وفتنة حدائقها وجمال أحيائها وهندسة طرقاتها واناقتها ورونقها وعبقها التاريخي.
وسر تسمية اكبر شوارع باكو باسم الزعيم الفرنسي الكبير شارل ديجول لكونه مر فيه العام 1944 وهو في طريقه الى موسكو في اول زيارته رسمية للاتحاد السوفياتي بصفته رئيسا للحكومة الفرنسية الموقتة، حيث وقع مع ستالين معاهدة التحالف والمساعدات العسكرية، نهلأمر الذي مكّن فرنسا من ان تكون في عداد الدول المنتصرة في الحرب ضد هتلر.