السبت 23 أغسطس 2025 02:58 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

السياسة والبرلمان

الدكتور أيمن سلامة يكتب : التاسع من ديسمبر و الإنكار التركي لإبادة الأرمن

النهار نيوز

يُمثل التاسع من ديسمبر اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية ، ففي التاسع من ديسمبرعام 1948 تَبنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الإتفاقية الأولى لحقوق الإنسان ، وهي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ، و تنص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها بوضوح على أنه "في جميع مراحل التاريخ ، تسببت الإبادة الجماعية في إلحاق ضرر جسيم بالإنسانية" ، مما يؤكد أن جرائم الإبادة الجماعية قد وقعت أيضًا قبل اعتماد الاتفاقية ، وكانت الايادي السوداء العثمانية ارتكبت جريمة الجرائم الدولية - الإبادة الجماعية – بحق الأرمن في عام 1915 ، ومَثلّت هذه الجريمة النكراء أحد أبرز النماذج التي استلهمها " رافائيل ليمكن " أول من نبه الجماعة الدولية عن خطورة جريمة الإبادة الجماعية وقبل إعتماد منظمة الأمم المتحدة للإتفاقية المشار إليها .

بالرغم من الأنماط الخمسية التي يشكل أي منها جريمة الإبادة الجماعية ، لكن السلاطين العثمانيين أبوا وإلا أن يرتكبوا كافة الأنماط التي يشكل أي منها هذه الجريمة ، وفقا لشهود عدل أبرزهم الدول التي ناصرتوحاربت يد بيد مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولي ، واعترفت هذه الدول مؤخراً بإبادة الأرمن علي يد العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولي .

شهدت البشرية - ولاتزال- العديد من الجرائم الدولية التى يرتكبها البشر سواء أكان ذلك فى أثناء السلم أم فى أثناء النزاعات المسلحة، وتأتى جريمة الإبادة الجماعية على قمة هذه الجرائم من حيث الخطورة والنتائج الوخيمة والآثار الكارثية التى تفضى إليها تلك الجريمة النكراء، حيث لا تقتصر هذه النتائج على اجتثاث أرواح البشر فقط، وإنما أيضاً تسبب جراحاً غائرة، وآلاماً مبرحة لأسر ضحايا الجريمة، ولم تكن الجريمة مثار اهتمام واستنكار القانون الدولى فحسب، ولكن سائر الأديان السماوية.

لقد صدمت جريمة الابادة الجماعية ، البشرية فى ضميرها، والنظام العام العالمى فى جوهره ، والكرامة الانسانية فى صميمها، نتيجة لهول الجريمة الشنعاء ، وفداحة أفعالها النكراء ، والتى دونت بمداد أسود فى حافظة التاريخ ، ويكفى الجريمة من تدليل ودلالة على أنها اى الجريمة تعكس “ انكار حق الوجود بالنسبة لجماعات انسانية بأسرها “

ان الأمر الذى لا مرية فيه ، أن الأسباب التى تزيد من خطورة جريمة الابادة الجماعية ، و تجعلها - بحق - جريمة الجرائم الدولية ، أن السلوك الاجرامى فى جريمة الابادة الجماعية لا ينتهك قاعدة قانونية و حسب ، لكن العديد من القواعد و الحقوق القانونية ،و يأتى على قمتها الحق فى الحياة أسمى الحقوق الاساسية للانسان ، فضلا عن أن ضمائر البشرية كلها تستشعر فى وجدانها أن بقاء الجماعة - وطنية كانت أم عالمية - هى أهم المصالح الأساسية للبشرية جمعاء ، فجريمة الابادة الجماعية جريمة شديدة الخطورة من حيث أنها تهدد الانسان فى أغلى ما يملك ، حيث تهدد بالخطر حياة الانسان و صحته و كرامته .

إن إبادة الجنس البشرى هى إنكار حق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، كالقتل الذى يمثل إنكار حق الشخص فى الحياة، هذا الانكار لحق الوجود يتنافى مع الضمير العام للجماعة الدولية، ويصيب الإنسانية بأضرار جسيمة الأمر الذى لا يتفق والقانون الأخلاقى وروح ومقاصد الأمم المتحدة .

إن الحق فى معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا يقتصر على كونه حقا قانونيا أصيل من حقوق الإنسان الأساسية بل يتخطى ذلك لكونه حقيقة إنسانية لصيقة بالفرد، و الحق فى معرفة الحقيقة لا ينصرف أو يعنى بالماضي، بل يرتبط بإدراك الحاضر الواقع ويمتد ليتحكم فى تشكيل واقع المستقبل.

بالرغم من ذلك ،لا تزال الحكومات التركية المتعاقبة تنكر حقيقة ما جرى للأرمن على يد السلطات العثمانية فى عام 1915، ويعد ذلك الانكار الذى يتنافى مع القيم الأخلاقية والانسانية والقانونية العقبة الأكبر فى تطبيع العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين الدولتيين التركية والأرمينية، فضلا عن رفض الاتحاد الاوروبى انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الاوروبى .

يأتى ذلك العناد التركى لرفض حقيقة ما وقع للأرمن عام 1915 بالرغم من عقد الدولة العثمانية ذاتها، المحكمة الخاصة فى أسطنبول عام 1919 لمحاكمة القادة العثمانيين الذى ارتكبوا جرائم حرب، وجرائم بحق الانسانية، وتحديدا بحق الأرمن أثناء الحرب العالمية الاولي، وبالرغم من الشهادات والتقارير الموثقة للسفراء و المبعوثيين الرسميين لدول أجنبية عديدة للخروقات الجسيمة لحقوق الانسان التى ارتكبتها السلطات العثمانية بحق الأرمن أثناء الأحداث الابادية، وبالرغم أيضا من الاقرارات الرسمية العديدة التى صدرت عن حكومات وبرلمانات العديد من الدول، والتى تقر أن ما وقع للأرمن على يد العثمانيين فى عام 1915 يعد جريمة ابادة جماعية بموجب القانون الدولى .

فالحكومة التركية الحالية، تزعم أن القتلى من الأرمن فى عام 1915 لا يتجاوز 300 ألف قتيل، وقضوا نحبهم أثناء ترحيلهم الى صحراء الشام فى العراقو سورية، ونتيجة الجوع والعطش والظروف الجوية السيئة، ولم تطلق عليهم رصاصة واحدة من القوات التركية التى كانت ترافقهم و تؤمنهم .

يشار فى ذلك الصدد الى أن اتفاقية الابادة الجماعية التى تحظر أفعال الابادة الجماعية ، لم تتحدث فقط عن قتل أعضاء الجماعة باعتبار القتل هو النمط الوحيد المستخدم لابادة جزء أو كل الجماعة المستهدفة ، لكن الاتفاقية، كما سبق أن وضحنا تحدثت أيضا عن إلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء من الجماعة، و اخضاع الجماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها كليا أو جزئيا، جلى أن، التعداد الوارد فى الاتفاقية المشار اليها، للأنماط اى الأشكال الخمسة للابادة الجماعية، يتغيى الحفاظ على الجنس البشرى من الافناء، بواسطة الأنظمة المستبدة، التى لا تقيم للانسانية وزنا، ولا تنظر للجماعات البشرية فى لحظة تاريخية نظرة انسانية مجردة و متجردة من اى تمييز أو اذدراء .

لا غرو أن كشف ومعرفة الحقيقة مسألة قانونية أولية مهمة، ليس فى حد ذاتها بل توطئة لتحقيق غايات سامية متعددة الجوانب، حيث تختلف هذه الغايات سواء كانت غايات نبيلة – مثل المساهمة فى استعادة السلام وصيانته- وغايات أخرى – مثل محاربة الإفلات من العقاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان فى المستقبل أو الحيلولة دون حدوثها، وتلبية مطالب الضحايا والدفاع عن حقوقهم، وإبعاد اللاعبين السياسيين السابقين عن الساحة السياسية، وإعادة تأسيس سيادة وحكم القانون.

إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، تمنح المجتمعات القدرة على منع تكرار أحداث مماثلة للتى وقعت، وتسهل فى حالات أخرى عمليات المصالحة وإعادة البناء حيث ينظر إلى معرفة الحقيقة على أنها ضرورة جوهرية لمعالجة التصدعات والانقسامات التى تحدث فى السياقات المحلية فى الفترة التى تلى إقصاء النظم الشمولية والاستبدادية، و هذا ما ينطبق تماما على السياق التركى

لقد آلت فرنسا علي نفسها إلا و أن تجعل يوم الرابع و العشرين من أبريل عام 2019 حدثا مهما للمجتمع الدولي الإنساني ، حين تقر فرنسا و تعلن رسميا للعالم الحر المتمدين أن ما حدث للأرمن في ذات اليوم الرابع و العشرين عام 1915م شَكّل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمنع و العقاب علي جريمة الإبادة الجماعية التي صدرت في 9 ديسمبر عام 1948 م ، ففي ذلك اليوم المظلم في تاريخ الأرمن و البشرية ، لفظت المجازر حممها ، حين أصدر الظالم العثماني فرمانه الأغبر بإبادة الأرمن غدرا ، و إبعادهم غيلة ، و تعذيبهم جبرا ، و تهجيرهم خارج وطنهم قسرا ، و أطلق الحاكم العثماني و لم يكن حكما عادلا ، رصاصة البداية للخطة الممنهجة و المعدة من قبل لإبادة الأرمن الجماعية ، فاستغرق حصد و تصفية المفكرين الأرمن ، و أعلامهم من أهل الثقافة و الرأي و الإبداع ساعات بطيئة في عمر الزمن و كئيبة في نفوس البشر في مشهد كئيب ليوم عصيب في الخامس عشر من أبريل عام 1915م و بالرغم من أن القتل عدته اتفاقية منع الإبادة المشار إليها أحد أنماط الإبادة الجماعية ، بيد أن الوحش الإبادي التركي الذي دشن قرن الإبادة الجماعية القرن الماضي ، آثر أن يسد علي أحفاده أتراك اليوم المنكرين للجريمة أية ثغرة يفلتون منها ، فارتكب كافة الأفعال الإبادية المختلفة التي نصت عليها المادة الثانية من الإتفاقية المشار إليها ، فصارت الدماء التي سالت من الضحايا الأرمن جراء الأفعال الإبادية التي ارتكبها الأتراك السلاطين مدادا أحمرا كتبت به الإتفاقية المشار إليها ، كما أشار لهذه الدماء الذكية الفقيه " ليمكن " في أطروحاته التي مهدت للإتفاقية .

ومهما طالت السنون ، ستظل ذاكرة التاريخ الإنساني ملطخة بدماء المليون و نصف الأرمني من الإطفال و النساء و العجائز و الرجال الشرفاء الذين قضوا بسنابك القتل و قيظ الصيف و زمهرير الشتاء في صحاري الشام ، فهذه الدماء سطرت تاريخ أرمينيا في تركيا ذاتها ، فشريعة الغاب لن تدوم طويلا ، و لن يستمر ضمير الإنسانية في سبات و غفوة و خدر إن إصرار ذلك الشعب الأرمني الجبار علي إحياء قضيته في ضمير العالم المتحضر و التصدي لمحاولات تركيا التهوين من الجرائم المرتكبة تارة ، و الإنكار تارة أخري للقضية الأرمنية برمتها جعلت حكومات و برلمانات الدول فضلا عن منظمات و جمعيات و هيئات المجتمع المدني العالمية و الوطنية تقر بأن ما ارتكبته تركيا عام 1915و ما بعدها شكل جريمة إبادة جماعية في القانون الدولي ، و هل بعد الإقرار الرسمي بالإبادة الأرمينية من حليفي تركيا : ألمانيا و النمسا رسميا في مايو عام 2016م أي إنكار ؟ إن أحد المبادئ الراسخة في القانون الدولي ، الإعتراف بحق الضحايا و أسرهم في معرفة الحقيقة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان ، و في المقابل يقع علي الدول التزام دولي بالتحري عن تلك الحقيقة و نشرها ، و قد فعلتها تركيا عام 1919 حين أسست المحكمة العسكرية في اسطنبول لمقاضاة القادة الأتراك الذين ارتكبوا الجرائم ، و لكن تتنصل تركيا الأردوجانية من كل هذه الحقائق و الوقائع القانونية و المادية ، و لا تجد من الجماعة الدولية إلا آذان موصدة تحفز الأحفاد و غيرهم علي ارتكاب ذات الجرائم إن آجلا أو عاجلا . إن الخطوة التاريخية الإنسانية الفرنسية تؤكد أن الحقيقة ضرورية لاحترام كرامة الضحايا و مصلحة المجتمع الدولي بأسره فيضحي ذلك الإقرار صمام أمان لمنع تكرار هذه الجرائم مستقبلا فالإنكار لا يعني إلا الإستمرار ، و إذا كان من المحتمل أن يؤدي اقرار الحكومة التركية بالجرائم التي ارتكبت بحق الأرمن إلي تخفيف معانة الضحايا المغبونين في قبورهم ، فمن المؤكد أن من شأن ذلك أن يحقق الشفاء الروحي لأسر و محبي هؤلاء الضحايا الباقين علي قيد الحياة . إن الإقرار بالذنب إعلاء للعدالة ، و لا يعد تصفية لحساب و لكن تهدئة للنفوس المكلومة من أسر الضحايا و تدعيم للتضامن الإنساني ، و إنهاء لثقافة الإفلات من العقاب ، و حفظ الجنس البشري ممن يذبحون و ينكرون ، و يمسح العار عن جبين الحكومات التركية الذي لايزال يعرق خجلا و فشلا .