تامر عزت يكتب: صورة سيلفي


بالرغم من حرارة شهر أغسطس، إلا أنني آثرت إلى السير بين الناس في الشارع، وهنا بدأت القصة، عندما رأيت صديق قديم يسير تائها، عجبت لأمره عندما رأيته سائرا في الشارع وكأن شمس أغسطس قد لفظته من شدة حرارتها،فظهر وكأنه قطعة من الجحيم يسير بأقدام محترقة، ألقيت عليه السلام وبعد برهة من الوقت تذكرني، عندها قفز بين احضاني وكأنني عائدًا من سفرٍ بعيد، أو هو الذي عاد من شروده، لا يهم، السنوات تفعل بنا ما لا يخطر على بال أحد، دعوته لتناول الغداء معا في إحدى المطاعم القريبة، لبى النداء بعد عدد من محاولات الرفض، سألته بعد صمت طويل وبعد إلحاح تيبس بسببه حلقي عن سر مظهره الغير معتاد ، نظر إلي في شرود، عينان زائغتان، ملامح باهته، وجه مطفأ، شعر أُهمل، لحيه كثة بلا تشذيب، حتى ملابسه ذات الألوان الغير متناسقه أكدت على إصابته بالاكتئاب الحاد، قال في أسى: ماتت أمى بالسرطان وانتحر أبي بعد موتها بعدة أشهر، وهجرتني أختى ولا أعلم لها عنوان ، وخسرت وظيفتي ولم أعد أملك من المال إلا القليل ما يكفي للبقاء على قيد الحياة.
روعت نفسي لما سمعت من أحداث قاتلة أصابت صديقي في مقتل.
التقطت أصابعه قطع اللحم وأكلها في نهم ، يبدو أنه لم يذق الطعام منذ عدة أيام إلا من لقيمات تساعد صلبه على الحياة، ثم أردف قائلا:
الصُدف لعبت معي عدة ألعاب كأنني صرت بطل رواية أحدهم يكتب فصولها ويربط بين أحداثها ومشاهدها بإتقان، أمي تموت بالسرطان ويغيب عني أبي عمدا ولا اعلم سر غيابه، أراه مرة واحدة فقط في الأسبوع، وفي نفس الوقت كنت قد ارتبطت بفتاة رأيتها تعمل كنادلة في إحدى الكافيهات، يشاء القدر، أو يشاء كاتب روايتي أن تكون من أحببتها في صمت هي زوجة أبي في السر، لاتتعجب أو تندهش، ليس المهم الاندهاش في هذا الزمن العجيب، الأهم أن تتقبل مثل تلك الامور في سلاسة ، والصبر عند المصيبة التي تقع فوق عاتقك، علمت فيما بعد أنه قد حدث شجارًا كبيرًا بينها وبين أبي،ولكن كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير، علمت أنه قاسي وسادي الطبع، يمارس الجنس بعنف شاذ ، يضربها بلذه غير مبررة،قالت لي أمورا كثيرة لم أكن أعلمها عنه، وكأن ما وراء الكواليس أكثر بشاعة من المظهر الخارجي، كانت تتحدث كأنها تعترف أمام طبيب نفسي عن ألمها، طلبت منه الطلاق وبمنتهى الهدوء طلقها، وعاد إلى البيت دون سابق إنذار، وصحوت من النوم إذ بي أجده قد أعد مشنقة في غرفة مكتبه وانتحر.
لا اعلم ان كنت قد امتنعت عن الأكل أم أنني سرحت مع حكايته، أم انتهيت من طعامي وأنا نسيت!، لازلت أذكر والده، هذا الرجل المثقف المحب للأدب والكتب والقصص والروايات، وقد ورث صديقي هذا الذي لا زال يأكل بنهم وشراهه كأنه لن يتذوق مثل هذا الطعام مرة ثانية، كان والده له دين علىّ عظيم ولا بد أن أرد هذا الدين اليوم.
انتهينا من تناول الغداء، وسارعت إلى الحلاق، وطلبت أن يجعله عريسا، وبعد أن انتهى من الحلاقة رأيت الشمس قد أشرقت من جديد على وجهه، بسرعه أمسكت بيده و قررت أن أجعله عريسا بجدية ، ذهبنا إلى محل ملابس وابتعت له قميص وبنطال وحذاء، وشاهد نفسه أمام المرٱه الطويله وكأنه أعجب بنفسه، لمعت عيناه العسليتان من الفرحه وهو يشاهد طول قامته وتناسق جسمه، لانت ملامحه في هدوء، رأيت امارات الشكر والعرفان في عينيه واحاطت ذراعيه حول جسدي، مالبث أن طلب ٱخر شيء كما أخبرني، وأخبرته أنني لن أتردد في التلبية، طلب أن يمكث الليلة فقط في إحدى الفنادق المطلة على البحر، يريد أن يجرب حياة الفنادق والافطار الجاهز وخدمة الآخرين له، ابتسمت في حزن ، وتساءلت في صمت :هل تلك هي أقصى أمانيه؟ ياللعجب، ذهبنا معا إلى فندق يطل على البحر، حجزت له الغرفة، والتقطنا صورة سيلفي معا وتركته سعيدا على أمل اللقاء غدا بعد الساعة الثانية ظهرا.
كانت ساعة الجوال تشير إلى الواحدة والنصف، بعد نصف ساعة سأقابل صديقي العزيز مرة ثانية، وليس قدرا أو كما قال تبعا لكاتب أقداره أن يحدث مالا يخطر على بالي ، ما إن اقتربت من الفندق حتى وجدت زحاما أمام الفندق، لم افهم لماذا تتواجد سيارات الشرطة، ولا أعلم لماذا ارتعدت فرائصي، وزادت ضربات قلبي، أهمس في سري أقول ( سلّم يارب)، وما إن اقتربت من باب الفندق حتى أشار لي أحدهم، يبدو أنه موظف مهم في الفندق وسأل: أستاذ وائل؟ أومأت برأسي بالإيجاب، استطرد قائلا: صديقك محمود ترك لك تلك الرسالة، أرجو قراءتها جيدا.
تركنى هذا الموظف والظنون تلعب برأسي، فتحت الورقة وقرأت:
صديقي العزيز وائل،
تحية طيبة وبعد،
يبدو أنه كما أخبرتك أمس، أنني بطل رواية يكتبها كاتب ما، لنطلق عليه كاتب الأقدار، كنت في طريقي إلى المجهول، ولكنك وقفت في الطريق، اعترضتني ورحبت بذلك الاعتراض، في عدة ساعات أصبحت شخصا ٱخر، ذاق حلاوة الدنيا من جديد، وكأن المرارة استحت مني وتركتني في حالي لعدة ساعات، تسريحة شعر جديدة، وجه مليح، ملابس أنيقة، حتى الحذاء كان بريق لمعانه أخاذ للنظر، في لحظتها غيرت خطتي، وسعيت إلى أن أتذوق ما لذ وطاب في هذا اليوم، ولكنه مر سريعا، دخلنا السينما، ضحكت من أعماق قلبي، خرجت بحال غير الحال، وأردت أن اختمها بالفندق، بعد أن التقطنا الصورة السيلفي، عاد إلى الظهور مرة أخرى، من؟ ، لنقل أنه قريني، أو شيطاني، أو صوت عقلي، ولكنه ليس صوت ضميري، اتفقنا على أمر ما ولكنني أجلت تنفيذه، كان يقودني إلى الجنون، هل تعلم ؟، أصبحت لصا بين يوم وليلة، نعم، سرقت، طلب منى تكرار هذا الذنب، ورفضت، هددني بالقتل، أمسكت سكينا وقررت ذبحه، ولكن أين هو؟، لا يتجسد الجبان أبدا، أهملت وظيفتي حتى رفدوني،غابت الشمس ولم يظهر القمر، أمس، كان آخر يوم في حياة الشقاء، فكرت سريعا أن أعمل لديك في شركتك ولو ساعي للبريد، رغم أننا في عصر التكنولوجيا، إلا أن حنية قلبك ستخلق لي أي فرصة عمل، ولكنه عاد من جديد، و أمرني بسرقتك بعد أن أعمل لديك، هل تصدق؟ ، ولكنني صممت أن أقتله تلك المرة، عندما تستلم تلك الرسالة وتقرأها يكون قد ابتلعني البحر، نعم، قررت الانتحار، من الواضح أنها جينات من السيد الوالد، تلك هي الفكرة المؤجلة والخطة الوحيدة لقتل هذا الشيطان الغير مرئي، سأموت بتلك الملابس الجديدة، انها كفني، والبحر كله مدفني، سئمت الأرض وترابها ومن فوقها ومن تحتها، البحر مدفن يليق بي، لماذا؟ ، سمعت أبي يوما يقول لي إن البحر لا يحب من يقاومه، إذا قاومته غضب، وأمسك بروحك،وإذا استسلمت تركك، وها انا اريد أن أقاوم ولو لمرة واحدة واخيرة، وأرجو من البحر أن يبلعني، لا يلفظني.
وفي الختام
أشكرك على أن جعلتني سعيدا في آخر يوم لى على الأرض.
صديقك. محمود".
كان قلبي يضرب الدنيا كلها بعنف، الأدرينالين انفجر من جميع خلايا جسدي، لو صمت المكان لسمعوا الجحيم وهو يخرج من اعماقي، تنبهت إلى الضابط الواقف أمامي عندما قال: نأسف لحادثة صديقك ، ولكن المد والجزر قد أخذ صديقك ونحن نحاول أن نستخرج جثته، ولولا كاميرات المراقبة بالفندق، لما علمنا ما أقدم عليه.
طلبت مشاهدة مقاطع الفيديو بداية من دخولنا الفندق حتى سيره مثل المشدود إلى شيء أو أن النداهة قد طلبته، كان هائما بلا وعي، بسرعة أخرجت هاتفي لأرى آخر صورة التقطتها معه. كيف لم انتبه؟
رأيت محمود وبؤبؤ عينيه تنحرف ناحية اليمين وكأن هناك من يوسوس له في أذنه بشيء، قاطبا حاجبيه في حزن، انه يمتثل لأمر قد سمعه من دخان أسود غير معلوم الملامح ،قريب جدا من أذنه وكأنه يهمس له الهمس الأخير.