السبت 23 أغسطس 2025 07:45 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

د. محمد أبو هاشم يكتب: رسول الله نبي الرحمة

د. محمد أبو هاشم
د. محمد أبو هاشم

إن رحمة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شملت الإنسَ والجان، والجمادَ والطيرَ والحيوان؛ بل وجميعَ الأكوان، فتحقق بقول الرحمان : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "، ولهذا يقول أبوالعباسِ المرسي: " الأنبياء خُلقوا من الرحمة، ونبينا ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ هو عينُ الرحمة، والأنبياءُ لأممهم صدقة، ونبيُّنا لنا هدية، والصدقةُ للفقراء، والهديةُ للكبراء "، ولقد جمع الله له ما تفرّق في غيره من الأنبياء والمرسلين ، فجمع له صبرَ نوح وقوتَه، ووفاءَ الخليل ومودتَه، وثباتَ يوسف وحكمتَه، ومعجزاتِ الكليم وشدتَه، وهمةَ سليمان وشجاعتَه، وحلمَ عيسى ورحمتَه، وبساطة يحيى ووداعتَه، وليس على الله بمستنكرٍ أن يجمع العالم في واحدٍ، فهو سيد الوجود ومنبع الرحمة والجود، تحقق بصفات الكمال، وتزينت روحه بكريم الخصال وجميل الأفعال، وجوهرة هذه الصفات هي الرحمة عنوان الشرع وثمرة الدين، وإذا تحدثنا عن رحمة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فعن أي جانبٍ من رحمتِه أتحدث :
عن رحمته بالأطفال: فقد كان يقبُّلُ الحسنَ والحسين، ويحملُ أمامةَ بنتَ ابنتِه زينب، وهو قائمٌ يصلي، فإذا جلس وضعَها، وإذا قام حمَلها، وجلس يواسي طفلاً مات عصفورُه، ويقول : يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟ رحمة بهذا الغلام ، وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرف كبيرنا "
أم عن رحمته بنسائه: فقد كان يجلس عند بعيره، فيضع ركبتَه وتضع السيدةُ صفيةُ رجلَها على ركبتِه حتى تركبَ البعير، وكان عندما تأتيه ابنتُه فاطمةُ رضي الله عنها يأخذُ بيدِها ويقبلُها، ويفرشُ لها ردائَه، ويُجلسُها في مكانه الذي يَجلسُ فيه، ولم لا ؟ ، وهو القائل: " من ولي من أمرِ البناتِ شيئاً، فأحسنَ إليهن كن له سترا من النار".
وتجلّت رحمتُه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ بالأعداء في ذلك الموقفِ العظيم، يومَ فتح مكة، عندما قال أحدُ الصحابة: اليوم يومُ الملْحمة، فأعلنها رسولُ الله صريحةً رحيمة، وقال:( اليوم يوم المرحمة )، وأصدر عفوَه العامَّ عن قريش، التي لم تدّخر وُسعاً في إلحاق الأذى بالمسلمين، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، بل كان إذا طُلب منه أن يدعو على أحدٍ أذاه عدلَ عن الدعاءِ عليه إلى الدعاءِ له، ويقول: إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثتُ رحمة.
ولم تقتصر رحمتُه على الإنسان فحسب، بل شملت الجمادات، فقد كان النبيُ يخطب في الناس، ويستندُ إلى جذعٍ نخلة، ثم صنعوا له منبراً ، فتحولَ إليه وتركَ الجذع، فحنّ الجذعُ لفراق رسول الله حتى سمِع الصحابةُ له صوتاً وأنيناً، فأسرعَ إليه النبيُ، واحتضنَه حتى سكن وهدأ، ثم التفت إلى أصحابه، وقال: " لو لم أحتضنْه لحنّ إلى يوم القيامة ".
صلوا على من كلمته ذراع وبفضله كفت المئين الصاع
والجذع حنّ له وما الأجذاع بأرق منا أنفساً وفهوما
صلوا عليه وسلموا تسليما
صلوا على من قد شفى بالريق عينَ الضرير ولدغةَ الصديق
وأعاد طعمَ الماءِ مثلَ رحيقِ إذ مجَّ فيه العنبرَ المختوما
صلوا عليه وسلموا تسليما
عباد الله: لم تقتصر رحمةُ النبي على المؤمنين فحسب؛ بل شمَلت رحمتُه غيرَ المسلمين، فمن اتبع رسولَ الله وآمن به كان له رحمةً في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعْه عُوفي ونُجّي مما كان يُبتلى به الأممُ السابقةُ من العذاب حتى لو طلبوا العذاب، فوجود رسول الله رحمة لهم من عذاب الله، بدلالة قول الله ــــ تعالى ــــ:" وإذ قالوا .. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " وتشملُ الكافرين والمؤمنين رحمتُه في الآخرة، فيشفع للخلق عند الله في بداية الحساب ، تحقيقاً لقوله : " يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة " في الدنيا والآخرة.
عباد الله: حري بنا أن نقتدي برسول الله في أخلاقة وفي رحمته، فلقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ولِنعلمَ أن قيمةَ الرحمة من القيمِ المركزيةِ الكبرى، وهي منبعُ الأخلاق وأصلُ الفضائل، ابتدأ القرآن بها في أول آية من كتابه وهي بسم الله الرحمان الرحيم، وكان أولَّ ما سمعناه من مشايخنا من سنة رسول الله هو حديثُ الرحمةِ المسلسلُ بالأولية، الذي يقول فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : " الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمْكم من في السماء " ليمتزجَ القرآنُ والسنةُ في إشباعِ المسلمِ بقيمةِ الرحمةِ في أولِ آيةٍ وأولِ حديثٍ حتى تختلطَ بكيانه ووجدانه، فتظهر آثارُ الرحمةِ عليه وعلى الكونِ من حوله، وحتى نعلم أن مبدأَ الشرعِ ومنتهاه هو الرحمة.
فهم الصحابة والتابعون لهم بإحسانٍ هذا المعنى وكانوا رحماء بينهم، ثم حولوا الرحمة إلى برنامج عمل إلى حضارة ملأت الآفاق، فظهرت الرحمةُ في إنشاء المستشفيات عام 86 ه، ثم المستشفيات المتنقلة، فكانت القافلةُ الواحدةُ تزيد على أربعين جملاً تخرجُ لتداوي المرضى، وتُسعف الجرحى، وظهرت الرحمةُ عملياً في حضارة المسلمين فيما يسمى بأكشاكِ الرحمة التي كانت توجدُ في الأسواقِ للتعاملِ مع أيِّ ظرفٍ، أو مشكلةٍ كأن يضيعَ متاعُ أحد أو يفقدَ نقودَه، فيلوذُ بها، فتُقضي حاجتُه، ظهرت الرحمةُ في إنشادِ المبتهلين الذين كانوا يُنشِدون التواشيحَ ليلاً على أسطحِ المساجدِ حتى يأنسَ بهم المريضُ الذي غاب عنه نومُه لمرضه، طبق المسلمون الرحمةَ فظهر من آثارها حسنُ المعاشرة، وبذلُ المعروف، ولينُ الكلام، وإفشاءُ السلام، وإطعامُ الطعام، وعيادةُ المريض، وتوقيرُ ذي الشيبة، وحسنُ العمل وقِصَرُ الأمل، وغيرُها من أمورِ الخير، وعلموا أن الرحمة سبب للتعرض لرحمة الله ـ عز وجل ـ وسبب في محبة الله للعبد ، وعلموا أن الرحمة بابهم إلى الجنة والاصطفاء، رُوي أن موسى قال: يارب بأي شيء اتخذتني صفيّاً ؟ قال: برحمتك على خلقي، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماء " ، فيجب علينا أن ننشر الرحمة لخلق الله، ونقتدي برسول الله، ونتحقق بقول الله : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "، فاللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

* إمام وخطيب مسجد السيدة زينب رضى الله عنها

21dae9bbe6dc.jpg
نبي/الرحمة