جودة أبو النور يكتب: معجزة الجيش المصري وتحقيقه النصر في حرب أكتوبر 1973


في السادس من أكتوبر عام 1973، سطّر الجيش المصري واحدة من أعظم ملاحم البطولة والفداء في التاريخ الحديث، حين نجح في تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وحقق نصرًا عسكريًا باهرًا أعاد لمصر والعرب كرامتهم وهيبتهم بعد سنوات من الهزيمة والانكسار في نكسة 1967.
عبور المستحيل
في تمام الساعة الثانية ظهرًا من يوم العاشر من رمضان 1393 هـ، بدأت المدفعية المصرية تمطر مواقع العدو على طول قناة السويس بنيران كثيفة، كانت إشارة الانطلاق لأكبر عملية عبور عسكري عرفها التاريخ الحديث. خلال ست ساعات فقط، تمكن أكثر من 80 ألف مقاتل مصري من عبور قناة السويس تحت غطاء محكم من الدفاع الجوي، وتمكنوا من تحطيم خط بارليف الحصين، الذي وصفته إسرائيل بأنه “أقوى خط دفاعي في العالم”.
التخطيط والدهاء العسكري
لم يكن النصر وليد الصدفة، بل نتيجة تخطيط دقيق وإعداد متقن استمر لسنوات. فقد عملت القيادة العامة للقوات المسلحة بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات، ورئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي، على إعداد خطة هجومية محكمة حملت اسم “بدر”، اعتمدت على عنصر المفاجأة والضربات المركزة. كما لعبت حرب الاستنزاف (1968–1970) دورًا حاسمًا في تدريب الجنود وصقل مهاراتهم القتالية، وكانت بمثابة “بروفة” حقيقية للمعركة الكبرى.
عبقرية الرئيس محمد أنور السادات: بطل الحرب والسلام
يُعد الرئيس محمد أنور السادات أحد أبرز القادة الذين غيّروا وجه التاريخ المعاصر. فقد امتلك رؤية استراتيجية ثاقبة جمعت بين الجرأة السياسية والحكمة العسكرية. استطاع أن يُخفي نواياه الحقيقية حتى عن أقرب المقربين، ونجح في تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجي التي أربكت أجهزة الاستخبارات العالمية، وجعلت ساعة الصفر مفاجأة تامة للعدو.
وبعد النصر، أثبت السادات أنه قائد سلام لا يقل شجاعة عن كونه قائد حرب، حين اتخذ القرار التاريخي بزيارة القدس عام 1977، في خطوة غير مسبوقة قلبت موازين السياسة الدولية وأرست أسس السلام في الشرق الأوسط. لقد جسّد السادات بحق معنى القيادة الواعية التي تعرف متى تقاتل ومتى تتفاوض، فاستحق عن جدارة لقب “بطل الحرب والسلام”.
بطولات خالدة تسطرها الأجيال
لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة بالنيران، بل كانت ملحمة من الإبداع والابتكار والإقدام. من أبرز هذه البطولات فكرة تحطيم خط بارليف، ذلك الحاجز الترابي العملاق الذي كان يمتد على طول القناة بارتفاعات شاهقة تصل إلى 20 مترًا، وكان العدو يعتبره مستحيل الاقتحام.
لكن عبقرية مصرية خالدة غيرت مجرى التاريخ، عندما قدّم اللواء المهندس باقي زكي يوسف – أحد أبطال سلاح المهندسين – فكرته العبقرية باستخدام مضخات المياه لفتح ثغرات ضخمة في الساتر الترابي. كانت هذه الفكرة البسيطة والمبتكرة هي المفتاح الحقيقي للعبور العظيم، إذ مكّنت القوات المصرية من اجتياز القناة والدخول إلى الضفة الشرقية في زمن قياسي، وسط دهشة العالم وإعجابه.
الشفرة النوبية: فكرة البطل أحمد إدريس
ومن صفحات البطولة التي لا تُنسى أيضًا، برز اسم البطل أحمد إدريس، أحد جنود حرس الحدود الذين تركوا بصمة خالدة في سجل النصر. أثناء خدمته في عام 1971، علم بانزعاج الرئيس السادات من تمكن العدو في كثير من الأحيان من فك شفرات اتصالات الجيش.
وفي يومٍ عاد فيه قائد كتيبته وهو يبدو عليه القلق، اقترح إدريس بابتسامة واثقة: “نرطن بالنوبي” — أي نتحدث باللغة النوبية، وهي لغة مصرية أصيلة تُنطق ولا تُكتب، ولا يفهمها سوى أبناؤها من أهل النوبة.
عرض القائد الفكرة على القيادة العليا، وتم اختبارها بنجاح لتُصبح فيما بعد الشفرة السرية لحرب أكتوبر، والتي استخدمها الجيش المصري في نقل التعليمات العسكرية الحساسة دون أن يتمكن العدو من فكها. كانت فكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها عبقرية في أثرها، وأسهمت في الحفاظ على سرية العمليات حتى لحظة العبور التاريخي.
وهكذا، أصبح أحمد إدريس رمزًا للذكاء الفطري والولاء الوطني، وجزءًا من منظومة الإبداع المصري التي صاغت معجزة أكتوبر.
التلاحم الشعبي والعسكري
كان الشعب المصري شريكًا أصيلًا في هذا النصر، فقد وقف خلف جيشه بكل ما يملك من قوة وصبر وإيمان. المرأة المصرية قدّمت أعظم صور العطاء، بين من تعمل في المستشفيات الميدانية، ومن تودّع أبناءها وزوجها بابتسامة فخر. لقد كان أكتوبر ملحمة وطنية شارك فيها الجميع، في مشهد يعبّر عن وحدة المصريين وإرادتهم التي لا تنكسر.
النتائج والتأثيرات
لم يكن نصر أكتوبر مجرد انتصار عسكري، بل كان تحولًا استراتيجيًا في موازين القوى بالمنطقة. فقد أعاد الثقة للمقاتل العربي، ومهّد الطريق لاستعادة الأراضي المحتلة عبر المفاوضات السياسية، وصولًا إلى اتفاقية كامب ديفيد عام 1978. كما أثبت للعالم أن الإرادة المصرية قادرة على تحويل الهزيمة إلى نصر، والمستحيل إلى واقع.
مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي: عبور جديد نحو المستقبل
في مسيرة الأوطان، تأتي لحظات فاصلة تُعيد كتابة التاريخ، وتجسد فيها القيادة رؤية شعب بأكمله نحو الغد. وهكذا كان عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي حمل راية العبور الثاني لمصر — عبور من مرحلة التحدي إلى مرحلة البناء والإنجاز.
بإرادة لا تعرف المستحيل، استطاع أن يُعيد صياغة الحلم المصري على أرض الواقع، فكانت الجمهورية الجديدة شاهدًا على نهضة وطن ينهض من عمق التاريخ نحو مستقبل يليق بعظمته.
لقد آمن الرئيس السيسي بأن قوة مصر لا تكمن فقط في جيشها وسلاحها، بل في وعي شعبها ووحدته، وفي سواعد أبنائها الذين يبنون ويزرعون ويصنعون. فكما انتصر جيل أكتوبر في معركة العزة والكرامة، فإن جيل اليوم يخوض معركة التنمية والبناء بروح لا تقل بطولة ولا إخلاصًا.
إنها ملحمة جديدة من العمل والأمل، تُكتب فصولها كل يوم في الطرق والمدن والمشروعات، وفي قلوب المصريين الذين يؤمنون أن وطنهم يسير بثقة نحو غدٍ أعظم. فمع الرئيس عبد الفتاح السيسي، تعبر مصر من النصر إلى النهضة، ومن العطاء إلى الريادة، لتثبت للعالم أن روح أكتوبر لا تزال تنبض في وجدان الأمة، وأن مصر قادرة — كما كانت دائمًا — على أن تصنع التاريخ وتبني المستقبل.
تثقيف الأجيال الجديدة بأمجاد أكتوبر
إن الحفاظ على ذاكرة النصر مسؤولية وطنية لا تقل أهمية عن تحقيقه. فالأجيال الجديدة التي لم تعش لحظات الحرب يجب أن تُدرك أن يوم السادس من أكتوبر لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل يومًا خالدًا في تاريخ مصر والعرب.
تثقيف الشباب بتاريخ هذا النصر يعزز انتماءهم لوطنهم، ويغرس في نفوسهم قيم التضحية والولاء والعمل الجاد من أجل حماية الوطن وبنائه. إن تعليم أبناء مصر معاني الشرف والانتصار والإرادة التي جسدها جيل أكتوبر هو السبيل للحفاظ على روح الأمة حية نابضة، لتبقى مصر دائمًا قوية بأبنائها، وفخورة بتاريخها المجيد.
تظل حرب أكتوبر 1973 علامة مضيئة في تاريخ مصر الحديث، ومعجزة عسكرية بكل المقاييس. لم يكن النصر مجرد معركة كسب فيها جيش أرضًا، بل كان انتصارًا للإرادة والإيمان والعزيمة.
وفي ظل قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، تواصل مصر مسيرة النصر بعبور جديد نحو مستقبل يليق بعظمة شعبها وتاريخها المجيد، لتبقى مصر دائمًا — كما أرادها الله — قلب الأمة النابض ودرعها الحامي وبوابة مجدها الأبدي.