الثلاثاء 19 أغسطس 2025 02:18 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الفنانة التشكيلية أميرة عبدالعزيز تكتب

”عبق البخور”.. دراسة سيميائية في اشعار الدرورة لبكري

الفنانة التشكيلية أميرة عبدالعزيز
الفنانة التشكيلية أميرة عبدالعزيز

يا الله كم من نعم كثيرة لا تُعَد ولا تُحصى وهبتها لنا..! إن الطبيعة التي خلقها الله هي روح العالم كل ما فيها يَنْبِضُ بالأسرار الإلهية وأعظَمُ سِرُ فيها هو الإنسان، هو الذي خُلِقَ من أجله كل شئ.

لقد مَنَّ الله علينا بنعمِ كثيرة حيثُ قال في كتابه الكريم : " إن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها " ومن بين تلك النعم حواس وهبها الله سبحانه وتعالى لنا، حتى يتجاوب بها الإنسان مع الوسط الذي يعيش فيه وتُساعِده على التنقل والتفاعل مع كل ما يدور حوله من أحداث وهذه الحواس ( السمع والبصر، الشم ، التذوق واللمس ) وتُعتَبر حاسة الشم أقوى هذه الحواس وثَبُتَ أنها أكثَرُها اتصالاً بمخِ الإنسان فتدخل الرائحة عبر الأنف على شكل أبخرة ، ونحن هنا بِصدد الحديث عن روائح العطور والبخور وما تُحدِثٌه في نفس الإنسان من أثرٍ طيب وراحة نفسية.

إن القرآن الكريم ذَكَرَ الريحان وهو نوع من أنواع النباتات العطرية في صورة الرحمن فقال جلَّ جلاله: " والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان " وهذا إن دل على شئ فإنما يدلُ على أن العطر في حد ذاته نعمة من الله عز وجل ، وفي صورة المطففين قال تعالى: " خِتامُهُ مِسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ".

وحين ننظر لشعراء وأدباء العرب فنجد ألسِنتهم وقد فاحت بأزاهير الأمثال وتغنوا بالعطر والطيب والزهور بأعذب الكلمات ، لتكتسي الطبيعة بأزهى ألوان الزهور وأعذب ألحان الطيور وتشدو الرياض بعطور الرياحين لتصبح الأرض مثل لوحة بارعة جميلة من كلمات شاعر وأديب قد تفنن وأبدع في صناعة أجمل العطور من مفرداته وألفاظه وإحساسه الذي يُغَلِف به كلماته حتى تَكَادُ تَشٌم رائحة عطر ومسك من بين كلماته وقوافيه.

لقد كان كتاب (عبق البخور) - دراسة سيميائية توليفية - لديوان (أغاني البخور) للشاعر والكاتب (علي الدرورة) الذي تناول فيه الكاتب (مجدي بكري) مؤلف الكتاب والذي أحاط واحتوى بقدر ما استطاع عبير ديوان أغاني البخور فنتجت توليفية عطرية ناتجة عن شعر الدرورة والدراسة السيميائية لبكري.

في مقدمة الكتاب يشيد الكاتب بشاعر الديوان بأنه مختلف عن بقية الشعراء في أسلوبه وأحاسيسه وجاذبية أشعاره، حيث أنه شاعر ذو إحساس مرهف وذكر مدى تعمقه في الكلمة واستخدام المفردات بأبعاد جمالية عميقة ولِمَ لا ..!؟ وهو مثل طائر النورس يُحَلِقٌ عالياً ليأخُذٌكَ معه إلى عوالم أخرى من الجمال والمعرفة، كما أن هذا الطائر المُحَلِقُ محباً عاشِقاً للزهور، وقد تناولت تلك الدراسة السيميائية أحد أنواع العطور وهي البخور التي جعل الدرورة منها لغة انتهجها في شعره، إنه ليس كأي شاعر آخر إنما هو متبحر وعالم أيضاً في علوم اللسانيات.

كما أوضح بكري في دراسته أن لغة الدرورة تُعَبِرُ عن مكنوناته حيثٌ أنه يٌسَلِم دفةُ قلمه لقلبه الذي لا يخطِئٌه لتفيضُ أشعاره ببعد جمالي وبقدرة إبداعية متميزة في الإحساس الذي ينبع من عطر كلماته، والأجمل أنه كما أوضحت الدراسة أنه صدرَ للشاعر عشرة دواوين عن عتبة البخور والتي لم يلتفت إليها أي شاعر آخر مثله بهذا الكم الهائل والرائع من الشعر، وهنا يَكمن السر ليس فقط في غزارة وكرم أشعاره وانتاجه ودراسته لمفردات اللغة وتوظيف ألفاظه بلغته الخاصة المتفردة إنما الموسيقى التي تسمعها من خلال ألفاظه المنسابة كشلال من العطور، إنما أيضاً احساسه وسحر كلماته التي يفوح منها الرياحين وتتصاعد منها رائحة البخور.

توضح الدراسة مدى تمكنه وابداعه ليصل إلى هدفه وغايته في أن يصل بإحساسه وعطر ألفاظه ورياحين أشعاره إلى طيات قلبك ويخترقه.

ويصف بكري أشعار الدرورة أنها قد ربطت بين حركة الجسد ورائحة بخور المحبوبة في (ذات البخور) وهو إهداء ووصف أيضاً لحبيبته، ثم يقول: (حين أشم البخور ترقص روحي) هنا ربط بين حركة الجسم والبخور من خلال حاسة الشم، (بخورها آخر أنفاسي) يدل على مدى عشقه للجبيبة وللبخور.

إنه وبحق مبدع في أن يجعَلُكَ تعيشُ وتتحرك معه منفعلا بِإحساسك عندما يشم رائحة البخور تارة وتتنفسه تارة أخرى، كذلك يُشبه محبوبته بالملاك المقدس الذي يحمل البخور ويحتار فيها فهل هي فينوس آلهة الحب والجمال عند الرومان أم هي عشتروت آلهة الخصب عند الفينيقيين والكنعانيين وقد تكون ملاك من الجنة ويشبه آهات حبيبته في جنونها وحنانها بالمسك والبخور، إن حبيبته عنده مجمل لكل ذلك.

لقد أسرد وأوضح الكاتب سبب هام في تَفرد وإبداع الشاعر حيثُ أنه وٌلِدَ في جزيرة لها طابع خاص وساحر أنجبت العديد من الشعراء والمبدعين، يرجع تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد مما أثرَ وانعكس إيجابياً على خصوبة أفكاره وألبسته المرجعية الزمانية والمكانية شخصية متفردة محبة للفن والجمال والمعرفة تحمل المصداقية في كل ما تقدمه.

كما أظهرت الدراسة مفهوم العتبة لغوياً واصطلاحاً وأظهرت أنها ليست نصوصاً معزولة ومستقتلة، إنما هي إجراء ثابت في ترتيبه زمن الكتابة وزمن والقراءة، وأظهرت الدراسة أهمية القراءة الأفقية (من العتبة إلى النص) والعمودية (من النص إلى العتبة) وربما أراد مؤلف الكتاب بذلك إلى إدخالك بعقلك ووعيك نحو شكل ومفهوم وتركيب وبناء القصيدة لغوياً وليس فقط الناحية الجمالية والحسية وهذا بالطبع جدير بأن يُعطي ثِقل للدراسة.

لقد أردفَ بكري في دراسته أيضاً أنماط العتبات في الشعر المرسل وذَكَرَ بِأنها تتنوع ما بين (العتبات الذاتية، الغيرية، التفويضية، الفعلية، البصرية، الحركية، المادية، السياقية والعتبات الذهنية) كما أوضحَ أن الدرورة هو الشاعر الوحيد في الوطن العربي الذي استخدم ثيمة ما بعد الإهداء..

قال في الإهداء: ( إلى ذات البخور)، (إليها حين عَبَقَ في الأرجاء)، وما بعد الإهداء يقول في ديوانه أغاني البخور: (حين أشم البخور ترقص روحي).

إنها إشارات تقود إلى حالات سيميائية بحته..! ويؤكِد أيضاً أن شعرية النص متممة للعتبة ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.

ومما لا شك فيه أن روح الأسطورة تظهر في ألفاظ وعتبات الدرورة في.. ‘‘بخورها آخر آثامي، أطياف البخور، بخور الجنة، أنغام البخور، تلاوات البخور، تجليات البخور، البخور المقدس، غناء البخور، ابتسامة البخور‘‘.. كلها جماليات ودلالات وتشبيهات ومترادفات تدل على خيال الشاعر وعمق المعنى عنده وتبحره في اللغة.

واختتم مؤلف الكتاب دراسته السيميائية بالأدوات والوسائل التي استُخدِمت لإشعال البخور والإستمتاع بعبقه عبر العصور، وكيف أنه إرتبطَ بأجواء السحر الغامض والجمال منذٌ عهد الفراعنة التي سجلته برديات التاريخ الفرعوني القديم كما أوضحَت الدراسة دور المباخر وأهميتها عند المصريين من تتابع استخدامها منذ عصورما قبل التاريخ حتى العصور المتأخِرة منه وهذا يدل على أنه ثقافة وفن قائم بذاته متماشياً مع حضارة كل أمة وكل عصر، إنه رمز تعبيري يستخدمه الشعراء والأدباء والكٌتَّاب في الشعر والقصة والحِكايات الشعبية نجده أيضاً في الأساطير، وبشكل شبه يومي كان يوجد داخِل أروقة المعابد وكانت إحدى طقوس العبادة المصرية القديمة فكانوا يستخدمونه في الحماية من الأرواح الشريرة التي كان يَظنُ المرءٌ أنها تهدده، فكانت تُقَدم كقربان، أيضا كانت إحدى الطقوس الجنائزية الهامة لِما يُعتَقد من أن له قوة خارقة تساعد المتوفي على استمرار الحياة في العالم الآخر.

وإلى لقاء آخر بإذن الله..

097391456b9de3dcd733c221855b1ce3.jpg
49749560ece7f6494e0ab35b47101aab.jpg
d261510ce1d4fdaeeec139e701de643f.jpg
fa71241451edd01c756d12f8ed4fa037.jpg
عبق البخور