الشاعر والقبيلة


هدفنا في هذا المقال أن نبين أن الشعر ذو طبيعة اجتماعية، وأن ثقافة الجماعة لها تأثير في القيم الشعرية الجمالية. والمعروف أن مجتمع سيناء هو مجتمع القبيلة، وأن مفهوم القبيلة هنا يقوم بدور مفهوم المجتمع في أماكن أخرى. وسنضرب المثل بقبيلة (الإرميلات) وابنها الشاعر الأنيق (إبراهيم شتيوي).
أولا – شعر القبيلة:
سأبدأ من بعيد، سأبدأ بطرح فكرة تدعو إلى تصنيف الشعر النبطي إلى ما يُسمى: "شعر القبائل". وهي فكرة سوف تضطر الباحث إلى أن يسلك مجاهل وقفارًا، تحمله على أن يصطنع الحذر، وأن يتثبت من مواطئ قدميه قبل المضي وفي أثناء المضي، ولكنه مع ذلك لن يعدم بعض المعالم يقيمها على جانبي الطريق، وينصبها بين يديه ومن خلفه يهتدي بها في سيره؛ ولا عليه بعد ذلك إن لم يبلغ أقصى الغاية، فحسبه أنه قد بذل الجهد وأخلص النية.
وهي فكرة قديمة نهض لها الأقدمون، وضاعت أعمالهم إلا "ديوان هذيل"! وهي أيضا فكرة معاصرة، نهض لها بعض الدارسين المحدثين فجمعوا ديوان "بكر"، وديوان قبيلة "كلب".
وإذا كان الأقدمون قد استهدفوا لهذا الأمر سعيا للتجميع والتوثيق؛ فإن بعض المحدثين تجاوزوا ذلك إلى دراسة الظواهر الفنية التي تميز شعر قبيلة ما، من ذلك دراسة (هارون آدم عبد الباري) الذي استهدف لشعر قبيلة "كلب" يجلي ما فيه من ظواهر فنية، فزعم أنه يدور بين مفهومين اثنين: مفهوم الغربة، ومفهوم الزمن.
هذا ما أقصد إليه، أن ينهض باحث بجمع شعر قبيلة وأن يصب عليه اهتمامه ليُظهر ما ينماز به من غيره.
وأول ما يبدأ به الباحث هو تحديد السمات الخاصة بالقبيلة، وتحديد هذه السمات يستدعي استحضار العوامل المؤثرة في رسم هذه السمات.
ثانيا – عوامل صنعت شخصية القبيلة:
منحت (الجغرافيا) قبيلة الإرميلات ميزات طبيعية واقتصادية واجتماعية وثقافية خاصة، وهذه الميزات طبعت شخصية القبيلة بسمات معينة ظهرت في أفرادها، الشعراء منهم وغير الشعراء، لكن الشعراء أقدر على التعبير عنها.
أرض القبيلة تحاذي البحر المتوسط، بصفائه وبهائه وامتداد آفاقه إلى ما لا نهاية، ثم تمتد جنوبا بادئة من الرمال البيضاء الناعمة المتحركة؛ لتصل إلى الأرض المتماسكة شبه الطينية، ثم تمتد لتتمكن من الأرض الطينية الصلبة، ثم تنتهي جنوب (رفح) بأرض بيضاء ناعمة متحركة مرة أخرى. أما من الشرق فهي تحاذي الأرض الخصبة في فلسطين المحتلة، ثم تتهادى نحو الغرب تتحس أماكن ثراء التربة ونمائها؛ حتى تصل إلى الأطراف الشرقية لمدينة (الشيخ زويد)، حيث يبدأ فقر التربية رويدا رويدا بالتدريج.
وهذه البقعة التي تسكنها القبيلة هي ألطف بلاد سيناء مناخا، وأنقاها هواء، وأصفاها جوا، وأغزرها مطرا، وأغناها عطاء، وأكثرها خيرا؛ فهي تغني أبناءها، ويحتاج إليها الآخرون فيفدون إليها ويخالطون أهلها ويقيمون بينهم؛ فتكوّن على أرض القبيلة مزيج ثري وقوي من قبائل وافدة، وأفراد قادمين من عموم مصر، فضلا عن عنصر مهم جدا، ومؤثر بشدة هو أهل رفح من الحضر الأصليين.
هذا الرخاء الاقتصادي، والمزج الثقافي الوسيع جعل أبناء القبيلة يعنون بالتعليم عناية خاصة يمكن تلخيصها في عبارة واحدة: إنني لا أستطيع أن أحصر عدد الطبيبات من بنات القبيلة، رغم أن أغلبهن من تلميذاتي.
ثالثا – شخصية قبيلة الإرميلات:
كان من نتيجة تلك العوامل أن صار للقبيلة طابع خاص بها. فهي قبيلة بدوية تتنازعها عناصر حضرية، قبيلة مستقرة اتخذت الزراعة مهنة أولى لها؛ حتى غزا أبناؤها ربوع الوطن بوسائل زراعية حديثة. ثم إنها تميل إلى رقة الطبع، واتساع الصدر، وامتداد الأفق، وهي أقرب إلى النظرة العلمية الواقعية في معالجة الأمور، فضلا عن شعور بالتميز وإحساس بالتفوق والثقة جعل الفخر سمة بارزة ظهرت في كثير من المواقف، ولا تزال.
لكن السمة الكبرى لهذه القبيلة هي حب الحياة وملذاتها، والميل إلى الغزل العفيف الذي أباحته لأبنائها عقودا طويلة، ثم النزوع إلى حلاوة الروح وظرافة المسلك وطرافة التعبير، وغلبة روح الفكاهة في أشد المواقف صرامة؛ حتى صارت براعة المزاح الظريف الطريف هي الملمح الأبرز لأبناء القبيلة. ولما أن جاء الرحيل الأخير اكتست القبيلة كلها – وقد رحلت كلها – اكتست بطابع الحنين الرقيق والشوق الجارف إلى الموطن العزيز.
رابعا – شعر القبيلة:
تراث قبيلة الإرميلات من الشعر ليس غزيرا؛ لأسباب كثيرة لا مجال لتبيانها هنا. ولكن ما وجدناه من تراثها، وما يقدمه أبناؤها الحاليون لا يكاد يخرج عن الغزل والفخر وحب الديار. وسوف نتخذ من إنتاج الشاعر (إبراهيم شتيوي) أمثلة على هذه الأغراض؛ فهو ابن القبيلة القادر على التعبير عن شخصيتها تعبيرا صادقا.
خامسا – شعر الغزل:
اشتهرت القبيلة بالغزل العفيف شهرة وسيعة، وترك شعراؤها فيه تراثا غنيا يسير على دربه أبناؤها المعاصرون، وأبرزهم إبراهيم الذي يقول:
الهنوف اللي على عرش الغرام
مدّت الفرقا وهي نبض الوريد
صار ليــها عام يتـلو عقب عام
والمشاعر عقـبها راحت صديد
والسنين اللي بقت صارت ظلام
مات فيــــها كل حـلم وكل عيـد
ليــتها تعرف غلاهـــا والهــــيام
ليــتها تسمع فــوادي وش يريد
من يداوي عين شـــاعر ما تنام
من يعزي شخص فاقد له فقيـد
لو درت كم حــاربوني هالـمــلام
لو تشوف النــــار كيف انـها تزيد
لو درت كيف البــلا شقّ العظـام
والشفايف صبّحت شبه الحـديد
والهموم اللي على صـدري زحام
واللهيب اللي بصدري له وقيـــد
كم ضحكة اليوم واحــوالي حطام
خوف لا ينقد على جرحـي نقيد
كيـــفها غابت ولا تبــــعث سلام
لجل قلب ن لجــلها صبّح شهيد
كنت أقول انّي ولو نصبح خصام
ما تحاول يوم تجعــلني وحيـــد
كنت أشوفك مزنة ن وسط الغمام
تسعدي عيـــني وبيدك ما تريـد
كنت في حـــبّك على روس الانــام
والمحبه عنــد وصــلك تســتزيد
ليش تقتـل من يحبّـــك يا حرام
ليش تقسى في غيــابك يا عنيد
وين وعدك وين حلفك بالتزام
كيف تترك من معك عايش سعيد
حسبي الله فيك ذي تسعة عوام
ما عرفت الفرح لو يوم ن وحيد
هذه هي شخصية القبيلة تتكثف في شخصية شاعرها، أو هي شخصية الشاعر تحتوي شخصية القبيلة. لغة رقيقة وألفاظ واضحة هي بنت بيئة امتزجت بالحضارة. وتراكيب سهلة لا تعقيد فيها هي نتاج بيئة منبسطة فسيحة مريحة. وتفانٍ في العشق اتسمت به القبيلة كلها. هذا هو شعر القبيلة الذي يجب على إبراهيم أن يسهر على تثقيفه وتجويده؛ ليناسب مقام القبيلة. ذلك أن بعض تعبيراته لا تتماشى مع سياق الغزل، مثل: المشاعر صديد، والشفايف حديد. إضافة إلى بعض تعبيرات ضعيفة، مثل: فاقد له فقيد. أو بعض الحشو مثل: كيف (إنها) تزيد.
لكن إبراهيم لن يخدعنا بهذه الحيلة الفنية؛ فإننا نرى أنه لا يتغزل في فتاة، وإنما هو يتغزل في رفح، وهذا يأخذنا إلى الغرض الثاني، وهو (الرحيل).
سادسا – الرحيل:
وشعر الرحيل هو نتيجة طبيعية نظرا لما تعرضت له القبيلة من أحداث عنيفة جعلتها تترك الديار. يقول إبراهيم:
يا طـير وصّل دار خلّي قصيـده
تشكي هموم اللي نظمها وكتبها
شاعر عزومه للمواجع شـديده
رغم الالـم ينهش بداخل عصـبها
يا حباب قـلبي بعدكم ما نريده
انتم مـلاذ الروح وانتم طلبـها
ع فـراقكم كل الليالي عنيده
ودمـوع عيني ما تفـارق هـدبها
لولاي ابيـّـن كل لحـظة سعيده
واكتم جـروحي بين ضلعي وضبـها
لـ كـان غنّت هالنفوس المكيده
واصبحت مضغه في مطارف لعبـها
اشتقت ليكم يا النفوس الحميده
واشتقت لدياري ولمـة عــربها
لبلاد فيـها كل حاجه فـريده
فـي طعمها في جودها في عشبـها
ابـلاد ما تالد رجال ن بليده
يفخر بها اللي يلتمس من نسبـها
ارجالها تمـلك صفات ن رشيده
فيـهم تشوف النادره في ادبــها
ع النار تلقاهم جموع ن عضيده
ودلالـهم اتكيّـف اللي شــربـها
والرجل فيهم له علوم ن وكيده
فالجـود ما ظني بـواحد غلبــها
من قال سينا عن اهلها بعيده
بالعون سيـنا حبـّٰها فـي مطبـها
من عقبـها صارت حياتي وحيده
ضايع وكاره كل حــاجه عقبـــها
ايقنت لا راحه ولا شــي نفيده
الا على قيـزان ناعـم تربـــها
بديار من ضمّت نفوس ن شـهيده
واحيت جروح ن مالقيــنا قظبـها
هــذي غلاها صعب تلقى نديده
تعجز حروفي وصفــها في طـربها
والله لو العمْـر باخــر رصيده
ما نساك يا دار الكرم في عربـها
أحسن إبراهيم في تصوير حال المهاجر، وأظهر ما يشعر به من ألم الفراق وشدة الحنين إلى الديار. كما أفاض في وصف طبيعة البلاد وسمات أهلها، وهذه نقطة محورية ستنقلنا إلى الغرض الثالث ولكن بعد الإشارة إلى براعة الشاعر في تعبيره عن التماسك والقدرة على تحمل الصدمة الهائلة، والغرض الثالث هو الفخر.
سابعا – الفخر:
ليس عيبا أن يفخر الإنسان بما أتاه الله من نعمة، وإنما العيب في التكبر والإساءة إلى الآخر، وهما بعيدان عن شعر إبراهيم. وإنما هو يفخر برجال من القبيلة يستحقون الفخر، لا لأنهم أبناء القبيلة، بل لأن أفعالهم مدعاة إلى الفخار، وجديرة أن يذكرها الشعراء، ومن هؤلاء الشيخ (طلب أبو عدي أبو ركبة) الذي يطول الكلام في منزلته، لولا أن إبراهيم كفانا الكلام حين قال:
اليوم غنّـي يا حروفــي بالاشعار
هاتي جزيل القــاف بأحلى معانيه
ابن القبيله قايد القوم مغوار
يا نعم ساسه دوم شامخ معـاليـه
مبروك يا اللي فـ المواقيف بتّــار
اسمك لنـا عزّه وفعـلك نبـاهيه
اليوم بسمك نكتسب كـل مضمــار
والسّـهم ما ظنّـه يخيّــب بهاقيه
قـدّام قـدّام اسمك اليوم مختار
بأوّل صفوف القـوم منـته بتاليه
سهم القـبيله دايم الدوم جبّار
الله يحـيّ السـاس ويحــيّ راعــيه
يا ابو عـدي يا عزوة اكبار واصغار
من هو بمثلك للقبــيله مساعيه
يرعاك من هو خالق البر وابحار
اللي درى بالحال وش هي خوافيه
تسلم وتسلم عدّ ما شعّــت انـوار
يا الله عسـى ربّي على الخير يجزيه
قـدّام قـدّام اسمك اليوم مختار
بأوّل صفوف الفوز منتـه بتاليه
و(سهم الرميلات) الوارد في القصيدة هو بعير دخل به الشيخ سباق الهجن، وكانت لفتة طيبة منه أن أسماه باسم القبيلة، كما كانت لفتة طيبة من إبراهيم أن نظم بعض أفعال الشيخ في قصيدة ستبقى تراثا للأجيال القادمة.
هذه هي القبيلة، وهذه هو الشاعر: ابن من أبنائها يتمثل روحها ويعيش ظروفها؛ فيتأثر بها، فيعبر؛ فيؤثر. شكرا إبراهيم، صوت القبيلة الصادق الشامخ الدافئ.