الثلاثاء 30 أبريل 2024 03:37 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المرأة والطفل

سلسلة نساء عظيمات غيرن التاريخ

حنان الطيبي تكتب:: ”تينهينان” الأميرة الهاربة والأم الأولى لنسل الطوارق( 1)

النهار نيوز

"تينهينان"، ملكة كثرت عنها الأساطير والحكايات، لم يذكرها التاريخ في شيء، لكنها ارست اسس الاحترام والتقدير لمكانة المرأة في الأيام الغابرة، اعتقد الطوارق انها حواؤهم، فيما نفى آخرون وجودها من الأصل!.

لكن قبل الخوض في الحديث عن الملكة الغامضة "تينهينان"، كان لا بد من معرفة هوية شعوب الطوارق وعلاقتهم بها، وكذا علاقتها بمملكة "اطلنتس" الضائعة.

من هم الطوارق أو الشعب الأزرق؟!:
فالطوارق يعتبرون من اقدم الشعوب العريقة على وجه البسيطة، واصلهم من قبائل الأمازيغ المشتركين في أكثرمن بقع جغرافية، ولهم حضور في الصحراء الكبرى وفي المغرب الأقصى وفي جنوب الجزائر وفي شمال مالي وفي شمال النيجر وكذا في جنوب غرب ليبيا وصولا إلى شمال بوركينا فاصو.
وللطوارق لهجتهم الخاصة، والتي يستخدمون فيها أبجدية حروف "التيفيناغ"، وهي من اقدم اللغات والأبجديات التي تكلم بها البشر على وجه الكرة الأرضية وأكثرها غموضا.
الطوارق مجتمع له عاداته الخاصة وعرفه وتقاليده، والمعروف عنهم لباسهم الأزرق ولثامهم الأزرق ايضا، في غالب الأحيان، وهو الشيء الذي اكسبهم لقب الرجال الملثمين او الرجال الزرق. إلا ان الطوارق يسمون انفسهم غير ذلك، فكلمة طوارق مشتقة من كلمة "تاركا targa", والتي تعني الأرض الغنية بالمياه، أما هم فيطلقون على أنفسهم اسماء من تاريخهم ولغتهم وحسب اختلاف قبائلهم، فيسمون أنفسهم "إيموهاج imohag" و"إيموشاج imochag" و"إيماشيكن imacheguen" و "إيماكيكن imakiguen".
ومهما اختلفت أسماؤهم فإن قبائل الطوارق تتميز جميعها بالاحترام الشديد للنساء مع تقديس دورهن في المجتمع، إذ تتمتع المرأة الطوارقية بمكانة عالية في المجتمع الطوارقي في مختلف نواحي الحياة إلى يومنا هذا، والسبب في ذلك ليس وليد العصر، بل يعود إلى قرون خلت، وتحديدا إلى امرأة قهرت كل القيود والعادات، واصبحت لاحقا ملكة وأم جميع الطوارق، بحسب الموروث الشعبي لدى جل الطوارق!.

الملكة تينيهان، الملكة الغامضة.. لا تاريخ لها:

الملكة تينهينان، هذه الملكة التي تناقلت وتتناقل قصتها الأجيال المتعاقبة أبا عن جد إلى زمننا هذا عبر خلف الطوارق، قدسها هؤلاء واعتقدوا فيها كل الاعتقاد، في حين اعتبرها المؤرخون والباحثون، من خارج مجتمع الطوارق، مجرد شخصية أسطورية لا وجود لها من الأصل!.

ومن المهم الإشارة إلى كون الطوارق لا يتحصلون على تاريخ كتابي ولا سجلات تاريخية تحكي عنهم كباقي الشعوب، بل على العكس من ذلك فأن كل تاريخهم يحكى شفاهيا عن الألسن متوارثا عبر الأجيال، ومنه قصة هذه الملكة!.

وفي العام 1925 ميلادي، انقلب كل شيء، وكاد التاريخ الشفاهي للطوارق يتكلم بلسان بشري!، إذ تم في السنة المذكورة اكتشاف ضريح الملكة تينهينان، وهذا الاكتشاف غير وجهة نظر أغلب المجتمع العلمي حول حقيقة وجودها من عدمه في التاريخ الأمازيغي وخصوصا الطوارقي!.

القصة كما هي من اجيال الطوارق:

يحكي الطوارق ان الملكة تينهينان كانت في الأصل أميرة، وقامت بالهرب من موطنها لأسباب عديدة ومختلفة، فتارة تكون هاربة من الأجزاء الشمالية من الصحراء، وتارة أخرى تكون هاربة من منطقة تافيلالت، لأسباب ايضا اختلفت بحسب الروايات، ما بين هربها بسبب إجبار والدها لها على الزواج من أخد الأمراء الإفريقيين، وما بين مضايقات تعرضت لها من طرف الأسرة الحاكمة في تلك المنطقة…
إلا أن المتفق عليه، أن تينهينان كانت شغوفة بالحرية ودائمة البحث عنها، وربما من هنا اكتسبت إسمها هذا، الذي تمت ترجمته من لغة "التاماهاج" القديمة إلى اللغة العربية حرفيا والذي يعني "ناصبة الخيام"، كدليل واضح على كثرة ترحالها وتنقلها وسفرها بحثا عن الحرية.
وبدأت القصة حين قامت الأميرة تينهينان يوما وكعادتها بالترحال في عرض الصحراء الشاسعة، رفقة حاشيتها الكبيرة وعلى رأسهم خادمتها المقربة "تاكامات"، فمرت أيام قليلة ليتيهوا في الصحراء بعد أن نفذ منهم الماء والطعام والزاد، وكانوا اوشكوا على الهلاك جميعهم، إلا أن الخادمة "تاكامات" انتبهت إلى معسكر نمل يهم بالدخول في ثقب الأرض وقد حمل على ظهره حبات من القمح!، فسارعت الخادمة بإخبار الأميرة بما رأت، فكان ان أمرت تينيهان الأميرة الفطنة والحكيمة، بأن يسير الركب عكس سير النمل، إذ لا بد من أن النمل يحمل طعامه من الاتجاه المعاكس..، وبالفعل اتجه ركب الأميرة إلى عكس سير النمل ليصلوا إلى جبال "أهاكار"، والتي أصبحت تعرف بجبال "هوقار" فيما بعد، وهناك انفرجت اسارير الأميرة بالعثور غلى المياه العذبة والحقول الخصبة حيث استقرت هي وقافلتها لتبدأ في تشييد مملكتها الجديدة!.

وبالفعل أصبحت تينيهان الملكة المطلقة على هذه المملكة، ومنها انبثقت سلالة الطوارق، لذلك وبحسب حكيهم فهي الأم الأولى للطوارق، ثم ضمت إليها بعض القبائل المجاورة، والتي كانت بحاجة إلى حماية قوية من إغارات قطاع الطرق والخارجين عن الحدود، فتوسعت المملكة وتوحدت القبائل.

الملكة تينيهان عرفت بالحكمة والذكاء والجمال الأخاذ، فاستغلت كل ذلك للسيطرة على المنطقة، ووسعت مملكتها لتصل إلى أكثر من ثلث القارة الإفريقية!، كما أنها دافعت غن القبائل الأساسية التي كانت هناك بدون حاكم، وقامت بتعليمهم فنون الحرب والقتال وكذا الدهاء السياسي، فاكتسبت مكانة عالية جعلتها تكسب حب واحترام وتقدير كل القبائل التي عاشت تحت حمايتها وحكمها وحكامتها، وبسببها وعبرها وعبر صفاتها النبيلة وحكمها العادل كسبت النساء تحت إمرتها وفي عهدها الاحترام والتقدير والتفضيل في المجتمع الطوارقي.

وكما سبق الذكر، فإن الملكة تينيهان لم يذكرها التاريخ بشيء، فلا سجلات تاريخية توثق مراحل حكمها أو حتى حياتها، وكل ما هو نغروف عنها من معلومات هو سرد الطوارق جيلا بعد جيل، ومنه ذكر إبنها "هوقار" والذي أخذت المنطقة إسمها من إسمه، وهو أول من وضع اللثام على وجهه ولبس اللون الأزرق في الصحراء الشاسعة، لتتناقل الأجيال المتعاقبة بعد هذه العادة وتصبح رمزا لرجال الطوارق!.

الملكة التي حاولت إثباث وجودها بعد الموت:

وتجدر الإشارة لكون مسألة غياب السجلات التاريخية المكتوبة، فإن الكثير من الجدل أثير حول وجود هذه الملكة من عدمه، إلا أن اكتشاف ضريح في منطقة "أبليسا" الواقعة في منطقة جبال الهوقار، سنة 1925، غير الكثير كما سبقت الإشارة لذاك من قبل.
هذا الضريح، تم اكتشافه من قبل بعثة مشتركة فرنسية- أمريكية، بقيادة عالم الآثار الكونط "بايرن بورك Bayren Poork", إلا أن هذا الأكتشاف لم يكن ليلقى أهمية كبيرة في ذلك الوقت، رغم أنه كان قريبا من اكتشاف قبر توت عنخ آمون ومدينة "أوور" القديمة سنة 1922، فظن اغلب مكتشفي الآثار آنذاك أن الاكتشافين الأخيرين أكثر أهمية من اكتشاف ضريح الملكة تينيهان!.

ضريح الملكة اكتشف على تل يطل على واد عميق، الضريح كان مبنيا بشكل دائري مشيد من الحجر، وكان بارتفاع 4 امتار وقطر 23 مترا، وعندما اكتشفت البعثة الضريح لم تكن بالطبع تعرف لمن يعود هذا المبنى، إلى أن حاول الطوارق منع البعثة من فتح الضريح معلنين أنه يضم جثمان أمهم الأولى وأن فتحه هو تدنيس لحرمة القبر وحرمة الملكة تينيهان، كما قاموا بإنذار البعثة من غضب محيط سيحل على كل من حاول نبش قبر الملكة..

ثم ما كادت البعثة تفتح الضريح حتى انهالت العواصف والرعد والبرق في يوم صيفي! ، إلا أن البعثة أكملت عملها ووجدت داخل الضريح عددا من الغرف فارغة، وكانت أول غرفة في الجزء الجنوبي الغربي تحتوي على قبر تحت 9 طبقات من الأحجار الغير اعتيادية بالنسبة لأحجار المنطقة، وبعد إزالة الأحجار تم العثور على هيكل عظمي لامرأة متقاطعة الأرجل، بمعنى أن رجلها اليمنى موضوعة فوق رجلها اليسرى، وكان رأسها مائلا إلى جنبها بعض الشيء، كما أن المرأة كانت مسجاة على لوح خشبي، وقد غطيت برداء جلدي أحمر مهترئ. ظهرت تفاصيله وتفاصيل الجثمان بعد أبحاث معملية وعلمية اجريت في المختبرات.
ولمزيد من للتفاصيل، اليد اليمنى للمرأة كانت تحمل أربعة أساور ثقيلة من الفضة، أما اليد اليمنى فكانت بدورها تحمل أربعة أساور أخرى من الذهب الخالص.
أيضا الكثير من الجواهر كانت موجودة في القبر مثل التوركواز والعقيق الحر وحجر الأمازونيت المغروف لدى الفراعنة والعقيق الأحمر الأصلي.

الدراسات أثبثت أن هذه الأحجار والمجوهرات أصلها من قرطاج في الشمال، وأنها كانت كافية لتؤكد أن هذه المرأة لم تكن عادية، وأنها كانت ملكة أو ذات قيمة ومكانة عاليتين في قومها.
كما وسنن الباخثون عمر القبر، خصوصًا بعد وجود فخاريات لم تصب بخدش واحد، فرشحوا ان تكون الفترة ما بين القرن الثالث والقرن الخامس الميلادي، وهي الفترة التي يقول الطوارق أن ملكتهم حكمت المنطقة فيها، أما التقوش على الفخاريات وحول القبر فقد كانت حاضرة وبقوة بحروف التيفيناغ الأمازيغية!!، والتي تمت ترجمتها فكانت المعاني حزائنية تدعو للملكة بالرقود بسلام.

وقامت البعثة بمجموعة من الأبحاث والدراسات العلمية الشاملة حول الموضوع بدا من سنة 1933 ميلادية، وكانت النتيجة ان الجثمان يعود لامرأة طويلة ورشيقة وجميلة جدا، عريضة الكتفين ونحيفة الساقين، ليرقد جثمان الملكة ليومنا هذا في تابوت زجاجي مع مجسم لها في متحف "باردو" في الجزائر.
كما أن إحدى الدراسات اشارت أن الملكة قد تكون عرجاء، والمفاجأة أن المؤرخ الشهير العلامة ابن خلدون كان ذكر في كتابه "تاريخ ابن خلدون"، ان امرأة عرجاء هي سلف الرجال الملثمين، أي الطوارق!!!.

تاريخ يؤرخ وتاريخ فقط بالذاكرة!:

ومع كل ما سبق ذكره حول هذه الملكة، فقد كثر حولها الجدل وأقاويل كثيرة، ابرزها القول بأنها كانت مسلمة، في حين أن الإسلام المحمدي، حسب ما ذكرت كتب التاريخ، أنه وصل إلى منطقة الملكة في القرن السابع، وقد كانت الملكة عاشت ما بين القرن الثالث والخامس!
كما قيل عليها انها آخر ملوك مملكة أطلنتيس الضائعة، حيث ذكرالمفكر والمؤرخ "هيروطوديس" أن الأطلنتيون هم بالفعل أسلاف الأمازيغ ومنهم الطوارق او الشعب الأزرق مثلما أطلقت عليهم الشعوب.

ولعل قصة مدينة اطلنتس الضائعة تشبه كثيرا قصة الملكة الغامضة تينيهان، فالأولى لم تحسم بعد والثانية لم تذكر أبدا سوى شفاهيا على ألسنة الرجال الزرق، كما ان الإثنتين لا أحد استطاع أن يثبث وجودهما من عدمه، ورغم ذلك فكون بعض الأحداث لم تؤرخ فهذا قطعا لا يعني أنها لم تكن موجودة، فكم من تاريخ مبتور وكم من تاريخ ملفق!.