الثلاثاء 19 أغسطس 2025 05:37 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الدكتور أيمن سلامة : حصار المدن و تجويع المدنيين و تعويق المساعدات الانسانية .

النهار نيوز

"الاستسلام أو الجوع " تكتيك يتعارض بشكل مباشر مع القانون الدولي الإنساني ( قانون النزاعات المسلحة ) ، فالأخير يَحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، ومن ثم يحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، سواء في حال النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية كونها تمس حقاً من أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حقه في الحياة و حقه في الغذاء ، إذ أصبحت المجاعة التي يتعرض لها السكان المدنيون تمس شريحة واسعة من المدنيين، خاصة الجماعات البشرية الضعيفة المعرضة للأخطار مثل النساء والأطفال واللاجئين والنازحين وأسري الحرب.

كثيراً ما يعمد الطرف المعتدي إلى تجويع المدنيين لتحقيق غاية ما، كأن يمارس التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، أو لاتخاذه من تجويع المدنيين وسيلة لدفعهم للضغط علي حكوماتهم للاستسلام أو باعتبار أن تجويعهم يحدث بصورة عرضية نتيجة فرض الحصار وقطع الإمدادات على المقاتلين مما يدفع بالمقاتلين إلى الاستيلاء على أغذية المدنيين لتأمين الإمدادات الغذائية للمقاتلين أو لكون المدنيين يتواجدون في المنطقة نفسها التي تسيطر فيها القوات العسكرية المحاصرة مما يتعدى التجويع بآثاره الى المدنيين بحكم الواقع.

كما أن منع وصول الغوث الى السكان المدنيين أو تدمير الأعيان المدنية كالمزارع وشبكات الري، أو حتى تطبيق سياسة الأرض المحروقة وسيلة دفاعية ضد العدو تؤدي في الواقع إلى حدوث مآسي كبرى كانت ومازالت تلقي بتبعاتها على المدنيين مما سبب الفتك بالكثير منهم وعلى مر التأريخ.

يُجمع الشراح على أن مبرر وجود الأنظمة والقوانين هو الحفاظ على مصالح الناس، ويأتي في مقدمة هذه المصالح الحفاظ على أرواحهم خاصة حال قيام الصراعات المحلية والدولية، سواء في العصر القديم أو العصر الحديث الذي شهد تطور الفكر السياسي والقانوني وتوصل العالم إلى أنظمة وقوانين خاصة لتحقيق هذه الحماية، من خلال القانون الدولي الإنساني الذي يحمي المدنيين غير المقاتلين في مناطق النزاعات الدولية وغير الدولية على حد سواء.

طَليٌ أن جريمة تجويع المدنيين تعد جريمة حرب خطيرة بموجب مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني الذي تحتل في الصدارة منه المبادئ الأساسية لحماية المدنيين ومنها: الإنسانية و التمييز و الضرورة العسكرية وحظر الحاق آلام لا طائل منها، فالجريمة تصدم البشرية في ضميرها، وتقوض أركان الأمم المتحضرة، وتبث بذو الحقد الدفين بين الأمم، وتمس مشاعر الأمان والطمأنينة التي يجب أن يشعر بها الإنسان حتى يتمكن من الاستمرار في الحياة وإعمار الأرض.

أثبتت أحداث القرن العشرين أن النزاعات المسلحة المعاصرة تستهدف المدنيين بصورة متعمدة، وأصبح الاعتداء عليهم في كثير من الأحيان يشكل عنصراً من عناصر النزاع المسلح واستراتيجياته، حيث تؤدي أشكال العنف التي تتخذها النزاعات المسلحة حالياً، وكذلك استعمل أساليب مختلفة منها تجويع المدنيين وعرقلة أعمال إغاثتهم إلى الزيادة في عدد الضحايا بين المدنيين. حرب الحصار وتجويع المدنيين كسلاح حرب وجريمة حرب.

إن التجويع المتعمد للمدنيين ليس تكتيكًا جديدًا للحرب، فقد خُبِرت البشرية بشتى أصناف الجرائم التي ذهب ضحيتها الملايين من البشر، قبل أن توصف تلك الجرائم، وتدرج في عداد الجرائم الدولية ، ويتبادر إلى الذهن على الفور الحصار الذي ضربه النازي الألماني في لينينغراد في الاتحاد السوفيتي السابق ،و أيضاً الحصار المتبادل علي المدن التي لجأت إليه القوات المتحاربة في بيافراـ نيجيريا أثناء الحرب الأهلية في ذلك البلد1967-1970.

يوضح القانون الدولي الإنساني أن التجويع المتعمد للسكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور وجريمة حرب يمكن المقاضاة عليها. هذا الحظر نص عليه البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949، والذي ينص على أنه لا يجوز للقوات المحاصرة تجويع المدنيين "كأسلوب من أساليب الحرب". وبالمثل، يُحظر "مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو جعل أي عناصر ضرورية لبقاء المدنيين على قيد الحياة"، وتدليلاً، الغذاء والأرض المستخدمة لزراعة الطعام والمياه وأعمال الري وما إلى ذلك، وبغض النظر عما إذا كان الهدف هو تجويع السكان المدنيين لحملهم على الانتقال أو أي دافع آخر، ولا ينطبق هذا الحظر الأخير على الموارد المستخدمة حصريًا لدعم القوات المسلحة للعدو أو في الدعم المباشر للعمل العسكري، حيث قد يتم استهداف هذه الموارد بشكل مباشر لأنها تشكل " أهدافًا عسكرية ".

تحكم هذه القواعد النزاعات المسلحة الدولية أي تلك بين الدول أو غير الدولية كما تنص المادة 14 من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1949، والتي تحكم النزاعات المسلحة غير الدولية، بالإضافة إلى ذلك، تعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن حظر تجويع المدنيين عمدًا جزء من القانون الدولي العرفي، بغض النظر عن تصنيف النزاع.

في غمار الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال من المتعارف عليه أن المحارب يمكنه فرض حصار على مكان ما وإعادة المدنيين الفارين إلى المناطق التي يسيطر عليها العدو من أجل الضغط على الغذاء المتاح والموارد الأخرى.

في القضية المسماة بقضية القيادة العليا، برأت محكمة عسكرية أمريكية بعد الحرب المارشال الألماني "فيلهلم فون ليب" لدوره في حصار لينينغراد الوحشي (سبتمبر 1941 - 27 يناير 1944) حيث قضت المحكمة بأن : يجوز للقائد المحارب أن يفرض حصارًا قانونيًا على مكان يسيطر عليه العدو ويسعى من خلال عملية عزل للتسبب في استسلامه، ومن ثم فإن قطع كل مصدر مؤنة عن المحاصرين يعتبر فعلا شرعياً، وخلص القضاة إلى القول: "ربما نتمنى لو كان القانون غير ذلك ، لكن علينا تفسير و تنفيذ القانون الماثل ".

جلي أن حظر تجويع المدنيين و تعويق المساعدات الإنسانية لهم صارا محظورين بموجب القانون الدولي الإنساني، إلا أن عدد الملاحقات القضائية قليلة جدًا على هذه الجريمة، وفي الآونة الأخيرة تكاد تكون الملاحقات القضائية لا تتعدي أصابع اليد الواحدة، باستثناء مقاضاة العقيد الصربي مومسيلو بيريشيتش الذي حوكم أمام قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.

بالإضافة إلى حظر التجويع كسلاح حرب، يتطلب القانون الدولي الإنساني من الأطراف المتحاربة السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحتاجين، حيث تنص اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، على: "أنه يجب على الدول السماح بالمرور الحر للشحنات الطبية والمواد الغذائية وإمدادات الإغاثة الأخرى لصالح السكان المدنيين"، وتوجد قاعدة مماثلة في البروتوكول الإضافي الثاني) الذي يحكم بعض النزاعات المسلحة غير الدولية.

يذهب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة إلى أبعد من اتفاقية جنيف الرابعة، ويسمح بمقاضاة التجويع المتعمد للمدنيين كأسلوب من أساليب الحرب على هذا النحو ، ولكن أيضًا "لحرمانهم من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة ، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف".

حرب الحصار هي تكتيك تم تطويره خلال العصور الوسطى يتضمن محاصرة حامية أو منطقة مأهولة بهدف إخراج قوات العدو من خلال تدهور دفاعاتهم وفصلهم عن التعزيزات والإمدادات الحيوية، وعلى الرغم من أن الحصار مكلف ويستغرق وقتًا طويلاً، إلا أنه في ظل ظروف معينة قد يكون أسهل من إشراك العدو مباشرةً في معركة مفتوحة أو الذهاب من منزل إلى منزل لطرد الخصم.

حظيت شرعية حرب الحصار باهتمام كبير في أعقاب حصار سراييفو (أبريل 1992 - فبراير 1996) أثناء الحرب التي نجمت عن تفكك يوغوسلافيا السابقة، وقد أدانت المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة اللواء ستانيسلاف جاليتش ، الذي قاد وحدة صرب البوسنة التي طوقت المدينة ، وقد وجهت إليه تهمة دوره في حملة قصف وقنص في المدينة ، عاصمة البوسنة والهرسك. أدانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة جاليتش ، من بين جرائم أخرى ، بـ "إرهاب" السكان المدنيين في انتهاك للمادة 51 من البروتوكول 1 والمادة 13 من البروتوكول الثاني ، وكلاهما مدرج في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ، والذي يسمح بمقاضاة "انتهاكات القوانين و عادات الحرب ".

على الرغم من هذه السابقة، فإن حرب الحصار ليست بالضرورة غير قانونية، ومع ذلك، فإن التطور في كيفية خوض النزاعات المسلحة الآن - في المناطق الحضرية بدلاً من ساحات المعارك البعيدة عن السكان المدنيين - إلى جانب التطورات في القانون الدولي الإنساني " يجعل من الصعب جدًا على القائد تنفيذ حصار ناجح ومشروع في نفس الوقت. " تظل حرب الحصار قانونية بموجب القانون المعاصر طالما أنها موجهة فقط للمقاتلين وأولئك الذين يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية، وفقط بقدر الالتزام بالأحكام الأخرى من قانون الحرب، وهو تحد كبير عندما يعتمد كل من المقاتلين والمدنيين على نفس الضروريات.