الدكتور أيمن سلامة : هل ستصير أوكرانيا الكبيرة دولة محايدة مثل الدول الأوربية الصغيرة ؟


أشارت الأنباء الأخيرة من جبهة القتال في أوكرانيا إلي استعداد الرئيس الاوكراني زيلينسكي لتفاوض أوكرانيا كدولة "محايدة" بشرط توافر ضمانات أمنية لها في المقابل.
شهدت القارة الاوربية العديد من الدول الصغيرة التي رأت تحقيق أكبر المنافع لمجتمعاتها في تبني الحياد، حيث يوفر الحياد فرصًا مثيرة لإنشاء سياسات خارجية وطنية مختلفة واستراتيجيات أمنية خارجية، وعزوف هذه الدول سواء بمبادرة منها أي برضاها أو وفق معاهدات دولية غير متكافئة عن الانخراط في النزاعات الدولية خاصة المسلحة.
لم تكن مصادفة أن تحقق هذه الدول الصغيرة التي اعتنقت الحياد أن تحرز نجاحات كثيرة وعلي مختلف الأصعدة، بل وصارت أكثر الدول ثراءً في العالم ، حيث تواجه الدول الصغيرة دوما "المعضلة الإستراتيجية " و التي تتمثل في الصعوبات التي تواجهها الدول الصغيرة في اختيار الاستراتيجيات الأمنية، خاصة في المجال الخارجي، فعلي هذه الدول أن تقرر الاختيار بين ثلاثة عوامل: الأمن والاستقلالية والتأثير.
يستخدم مصطلح "الحياد" في الموضوعات المتعلقة بالعلاقات الدولية أو السياسات الخارجية، ويقوم المفهوم العام للحياد على مبدأ عدم المشاركة في الحرب، و اكتسب الحياد قبول المجتمع الدولي كمفهوم وممارسة في السياسات الخارجية الدولية، وغالبا ما يرفق مصطلح "دائم" بالحياد.
يلزم التدقيق بين المصطلحات: "التحييد "، و"عدم القتال"، و"عدم الانحياز" ، فيشير التحييد إلى الظروف التي يتم فيها فرض الحياد من قبل قوى أخرى بعد الحرب، وتدليلا ينطبق ذلك إلى حد ما على أمثلة النمسا وفنلندا بعد الحرب العالمية الثانية.
أما فيما يتعلق بعدم القتال، فينطوي المفهوم على عدم مشاركة دولة ما في حرب، ولكنها مع ذلك لا تزال تنحاز لأحد أطراف الحرب على طرف حرب آخر، والمثال الذي يضرب في ذلك السياق هو موقف السويد في حرب الشتاء بين فنلندا والاتحاد السوفيتي عام 1939-1940.
أما الشكل الأخير لعدم الانحياز فيختلف بدرجة نسبية عن المفهومين السابقين، فكان لعدم الانحياز أهمية كبيرة خلال الحرب الباردة وفي هذا الوقت كانت الفكرة هي عدم الانحياز لأي طرف بين الكتلتين في أوروبا، وكانت الغاية الرئيسية لابتداع ذلك التوجه السياسي في المقام الأول لتحقيق وحماية المصالح الوطنية الذاتي للدول التي تتبني عدم الانحياز
من الناحية القانونية يشير مصطلح الحياد إلي تحمل الدولة المحايدة بمسؤوليات محددة يجب الوفاء بها ، وتكتسب أيضا حقوق معينة يجب احترامها من قبل الدولة المحايدة وكذلك المجتمع الدولي ، ويعد مفهوم الحياد أحد المفاهيم المعقّـدة في القانون الدولي العام، فلأول مرة، تضمّنت اتفاقيات 18 تشرين الأول 1907، التي وقّـعت في مؤتمر لاهاي الثاني، نصوصًا تحدِّد حقوق الدول المحايدة والتزاماتها، وينصّ أحد بنود تلك الاتفاقية، على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع ، في المقابل، ومن وجهة نظر سياسية، فالحياد يخدم مصلحة معينة للأمة، وبالتالي يمكن أن تتغير الظروف السياسية الخارجية – في المقام الأول - ومعها تفسير حياد الدولة.
تدليلاً ، رأت النمسا نفسها في موقف صعب بعد الحرب العالمية الثانية، بعد خسارتها حربين عالميتين ، وبنهاية عام 1945 ، احتلت القوات الأجنبية الأراضي النمساوية و تفاوض الدبلوماسيون النمساويون على شروط مع مختلف القوى المنتصرة استعدادًا للاستقلال في المستقبل، وربما تتماثل المفاوضات المرتقبة الروسية -الأوكرانية ، كتلك التي جرت بين النمسا و الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والتي انتهت في عام 1955 ، وتكللت المفاوضات بإبرام معاهدة الحياد الدائم ، إثر طلب المستشار النمساوي يوليوس راب بتبني الحياد على أساس طوعي لأن الحياد القسري لن يكون له نفس التأثير في المجتمع النمساوي ، وتم تضمين المعاهدة في الدستور النمساوي في وقت لاحق في 26 أكتوبر 1955.
ختاماً ، لا يمكن الجزم بمآل المفاوضات التي لم تبدأ بعد في مينسك العاصمة البيلاروسية بين روسيا وأوكرانيا حول مصير أوكرانيا التي شاء قدرها أن تقع بين كفي الرحي : الدب الروسي الكاسح في الشرق ، و "اليانكي "الأمريكي المتخاذل في الغرب ، ولذلك فالحسابات الأوكرانية العجلة قبل الاجتياح الروسي لن تغيب عن حسبان الرئيس الأوكراني .