السبت 20 ديسمبر 2025 08:49 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

د/ محمود أبوعميرة يكتب : حين نفقد لغة القلوب: يضيع كل شيء.

النهار نيوز


هناك لغات تولد مع الإنسان قبل أن يعرف أسماء الأشياء، وقبل أن يتهجّى الحروف الأولى، لغة تنبع من ذلك العمق الذي لا تصل إليه يد، ولا يدركه عقل، ولا يشرحه لسان، إنها لغة القلوب، اللغة التي تتحدث بها الأرواح حين تصمت الأصوات، وتفصح بها العيون حين تعجز الكلمات، ويرسلها الإحساس خفيةً بلا إذنٍ ولا ترتيب.
ففي الحياة لحظات لا تُقاس بالساعات ولا تُحصى بالأيام، بل تُقاس بنبضة صادقة، وبكلمة خرجت من القلب، وبعينٍ أفصحت قبل اللسان، فليست اللغة تلك التي تُبنى من الحروف، بل تلك التي تُسكب من الروح، وحين نفقد لغة القلوب، يبدأ كل شيء حولنا بالتلاشي؛ تضيع دفء العلاقات، وتبهت ملامح الوجوه، ويتحوّل القرب إلى غربة، والصمت إلى جدارٍ لا يُهدم.
فالقلوب هي أول بيتٍ سكنته البشرية، قبل أن تبني مدنًا، واول لغة تحدثها الانسان قبل أن يعرف لغة الحروف والهجاء، وعندما نسينا تلك اللغة الأصيلة، صرنا نبحث عن المعاني خارج أنفسنا، بينما هي في أعماقنا تنتظر من يعيد اكتشافها.
وحين نفقد لغة القلوب، نصبح غرباء في بيوتنا، ونمضي بين الناس كأننا نعبر صحراء لا ظلّ فيها ولا ماء، ومهما تحدثنا من كلمات بعيدة عن لغة القلوب سوف نفقد دفء معانيها، فقد نرفع اصواتنا بالكلمات، بينما الحقيقة كانت تحتاج إلى همسة فنلوم الآخرين، بينما يقع اللوم الأكبر على القلب الذي انشغل حتى توقفت نبضاته عن الإصغاء.
وحين نفقد هذه اللغة الجميلة ايضا… لا يتساقط منّا حرف، بل يتساقط عالم بأكمله، فيفقد الإنسان ملامحه، وتبهت نبضاته، ويغدو الوجود صحراء ممتدة تعكس قسوة الوجود، قد يصبح كل شيء حولنا صحيحًا منطقًا، لكنه باهت، يشبه زهرةً بلا رائحة، أو قمرًا مسجونًا خلف غيمٍ كثيف، ففي غياب لغة القلوب، نفقد ذلك الضوء الذي كان يفيض من الداخل ويهدينا إلى بعضنا البعض.
وحين نفقد لغة القلوب، ينكسّر منّا اشياء لا تُرى… اشياء كان تحمينا من القسوة، فيصبح القريب بعيدًا، والدفء باردًا، والضحكة شكلًا بلا حياة، فالقلوب التي لا تتحدث، تتحول إلى حجارة، والأرواح التي لا تتواصل، تموت واقفة.
كم من حبٍّ مات لأنه لم يجد قلبًا يصغي اليه ! وكم من ودّ ضاع لأننا نسينا الاحساس الآخرين! وكم من أرواح تفرّقت، لغياب المشاعر النبيلة، وغياب تلك اللغة العميقة التي كانت تصلح كلّ كسور الحياة!
كم من علاقات انتهت، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها خلت من لغة القلوب! وكم من صداقات تلاشت، لا لعدم القرب، بل لغياب الصدق! وكم من أواصر انقطعت، لأن القلب لم يعد يُرسل إشارات الرحمة والحب، ولم يعد يتلقّى رسائل العطف والحنان!
إنّ القلوب، حين كانت تحفظ لغتها القديمة، كانت تفهم الهمسة أكثر من الخطب، وتصدق النظرة أكثر من الكلام، وتسمع أنين الأرواح الخفيّة قبل أن يصبح صراخًا، نعم كان الإنسان حينها قلبًا قبل أن يكون جسدًا، وإحساسًا قبل أن يكون فكرة، وصدقًا قبل أن يكون عبارة.
ولكن اليوم… كثرت الأصوات وقلّ الشعور، فازدحمت الكلمات في الطرقات، والصدق أصبح نادرًا كالنجمة الوحيدة في سماء ملبّدة بالغيوم، وصار الناس يشرحون ما لا يحتاج إلى شرح، ويبررون ما كان يكفي فيه الصمتٌ، وصرنا نبحث عن المعاني في الكتب، بينما هي تعيش داخل قلوبنا وتحتاج منا فقط الاصغاء اليها.
إن لغة القلوب ليست رفاهية، بل ضرورة كبيرة في حياتنا، لانها البوصلة التي توجهنا حين تتوه المعاني ونضل الطريق، وهي النور حين يشتدّ الظلام، وهي الجسر الذي يعبر بنا فوق اختلافاتنا وأخطائنا وضعفنا البشري، هي اللغة الوحيدة التي تفهمها روح الطفل، ورسالة الأم، ودعاء الأب، وابتسامة المحبّ، ودمعة المنكسر.
وعندما نستعيد لغة القلوب، نستعيد أنفسنا، ويصبح الحديث بسيطًا لكنه عميقا، ويصبح الحضور مع من نحبّ دواءًا لجراحنا، نتعلم كيف نسمع ما لا يُقال، وكيف نرى ما خلف الوجوه.
نعم لغة القلوب تُعيد للحياة لونها الأول، لون الصفاء، وتُعيد للروح توازنها القديم، وتزرع في القلب يقينًا بأن الإنسان لا يُقاس بما يقول، بل بما يشعر ويحس فيجعل الآخرين يشعرون به.
فلنتعلّم من جديد كيف نتحدث بقلوبنا: كيف نسامح قبل أن يُطلب منا العذر، وكيف نلتمس العذر قبل أن نُصدر الحكم، وكيف نُطفئ الحزن بكلمة، ونُوقظ الأمل بنظرة، ونُعيد بناء ما تهدّم بلمسة صدق، لأننا حين نفقد لغة القلوب… يضيع كل شيء.
ولنتعلم من جديد كيف ننصت للقلوب لا للأصوات؛ كيف نرى الأرواح لا الوجوه؛ كيف نحتضن ما ينكسر داخل الآخرين لا ما يظهر عليهم، لأن كلمة القلب ليست حرفًا، بل دواء، ولأن نظرة القلب ليست عينًا، بل طريقًا، ولأن لمسـة القلب ليست يدًا، بل حياة.
نعم حين نفقد لغة القلوب… يضيع كل شيء فعلاً؛ وحين نستعيدها… يعود كل شيء كما لو أنه يولد من جديد.

د/ محمود أبوعميرة يكتب حين نفقد لغة القلوب: يضيع كل شيء.