شرم الشيخ... مائدة النار والندم: بين مكاسب السلاح وصرخة الإنسان


تتهيأ شرم الشيخ — تلك المدينة التي جمعت بين زرقة البحر ولهيب السياسة — لتشهد غدًا جولة جديدة من مفاوضات غزة، حيث يتقابل الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي على طاولة واحدة، لا ليصافحا، بل ليختبرا معنى البقاء في زمن تتصارع فيه البنادق مع الضمائر.
ليست هذه المفاوضات كباقي الجولات، فهي تأتي بعد أن أكلت الحرب لحم الأرض، وأحرقت البيوت، وأوجعت الضمير الإنساني. يدخل الوفد الإسرائيلي وهو مثقل بالاتهامات الدولية والاحتقان الداخلي، ويأتي الوفد الفلسطيني محملًا بجراح غزة وآهات أطفالها، يفاوض باسم وطنٍ لا يزال بين الركام يبحث عن نفسه.
مكاسب إسرائيل.. بين إعادة التموضع وغسل السمعة
تحاول إسرائيل من وراء هذه المفاوضات أن تغسل وجهها الملطخ بالدم أمام الرأي العام العالمي، وأن تخرج من أتون الانتقادات الدولية بشيء من “الهدوء التكتيكي”.
تسعى إلى وقف نار مشروط يمنحها استراحة عسكرية، ويُعيد ترتيب أوراقها على الحدود، ويضمن استمرار هيمنتها الميدانية بغطاء “أمني وإنساني” في آن واحد.
أما صفقة الأسرى، فهي الورقة الذهبية التي تحاول تل أبيب أن تستثمرها سياسيًا، لتظهر أمام الداخل الإسرائيلي وكأنها استعادت “هيبة الردع” المفقودة.
لكن المكسب الحقيقي لإسرائيل ليس في صفقةٍ أو هدنة، بل في استمرار الغموض السياسي الذي يبقي الفلسطينيين بين مطرقة الانقسام وسندان الحاجة.
مكاسب فلسطين.. حين يكون الصمود بديلاً للنصر
أما الفلسطينيون، فيدخلون المفاوضات بلا جيشٍ ولا حدودٍ، بل بروحٍ لا تُقهر.
مكسبهم الحقيقي هو أن يبقى لهم صوت على الطاولة رغم أن العالم حاول إسكاتهم بالقنابل.
هم لا يطلبون المستحيل، بل الحد الأدنى من الحياة: وقفٌ للنار، عودةٌ للهدوء، إدخالٌ للمساعدات، وإعمارٌ لما تهدم، وتحريرٌ لأسرى طال انتظارهم.
لكنّ المكسب الأكبر — والأبقى — هو أن العالم بدأ يسمع الرواية الفلسطينية بعد أن كانت تُهمّش طويلاً، وأن الدم الذي سُفك صار شاهدًا على صدق القضية، لا ذريعة لإسكاتها.
بين الطرفين... مكسبٌ وحيد اسمه “الإنسان”
تبدو طاولة شرم الشيخ اليوم كمرآةٍ تعكس وجهي الحقيقة:
وجهاً يحمل سلاحًا يبحث عن أمنه ولو على جثث الأبرياء،
ووجهاً آخر يحمل الألم، يبحث عن سلامٍ لا يُشترى بالدم.
وما بينهما، مصر التي تجمع وتُصلح وتُذكّر الجميع بأن “الإنسان أغلى من الميدان”.
هي لا تفاوض عن طرفٍ، بل عن مستقبل المنطقة كلها، لتمنع أن تتحول الحروب إلى قدرٍ دائم.
قد تخرج المفاوضات بورقة توقيع، أو بندٍ مؤقت، أو حتى لا شيء...
لكن يكفي أنها أعادت صوت الإنسان في مواجهة منطق السلاح.
ويبقى الأمل أن يكون سلام شرم الشيخ هذه المرة سلامًا لا تُخنقه المدافع، وأن تتحول كلمات “وقف إطلاق النار” إلى بداية حياة، لا هدنة انتظار لمجزرة أخرى.