علي شعيب يكتب : حذاء وردي


.. ظل يتأمل الحذاء الذي قذفته الأمواج على الشاطئ، يقلبه بين يديه، ثم يعاود النظر إلى البحر الممتد، تتصارع داخله أفكار شتى، يطلق لخياله العنان ليغوص داخل تلك الزرقة اللامتناهية، ربما يعود هذا الحذاء لفتاة قبرصية أو يونانية، أو ربما تكون إسبانية أو إيطالية، المهم فتاة تسكن خلف هذا البحر الممتد، فلا أحد غيره يأتي إلى هذا المكان المهجور الذى شكلت الصخور جزءاً كبيراً منه وظلت لسنوات رابضة وصامدة في مواجهة الأمواج العاتية التي تضرب بكل قسوة. يحلق بعينيه في الفضاء الواسع، ثم يعود وينظر إلى الصخور التي غطتها طبقة سميكة من الريم الأخضر فبدت وكأنها مجموعة من التلال الخضراء، تتراقص في رعونة ابتهاجاً بانتصارها في معركتها المستمرة مع الأمواج.
تتسمر عيناه على المشهد، وهو يتذكر محطات حياته المختلفة، لقد خسر كل أمواله تقريباً في البورصة، وتركته زوجته لتتزوج من أعز صديق له قبل أن يسافرا معا ليقضيا شهر العسل في أوروبا، شعر ساعتها أن الدنيا غابة كبيرة لا مكان فيها لأصحاب القلوب الصافية والضمائر الحية.
كل يوم، يأتي إلى هذا المكان، يجلس بالساعات وهو يراقب هذا المشهد الذي لا يتغير، تضرب الأمواج الصخور، الصخور تظل صامدة، تعود الأمواج منكسرة، تستجمع قوتها وتعاود الهجوم من جديد.
يعود وينظر إلى الحذاء، يدقق النظر، ترتسم على وجهه علامات الدهشة والحيرة، يحاول أن يطرد تلك الفكرة المجنونة من عقله، فلا يمكن أن يكون هذا الحذاء لزوجته، أو من كانت زوجته، ولكن نفس المقاس ونفس اللون، إنها تعشق اللون الوردي، هو يعرف ذلك جيداً.
تذكر أول حذاء اشتراه لها، كانا في فترة الخطوبة عندما اختارت اللون الوردي، لقد أحب هذا اللون لأجلها، فكانت الكرافتات والقمصان والشرابات لا تخلو من هذا اللون، حتى حجرة نومهما كانت تنطق بكل ما هو وردى، كان يحبها بجنون، أما هي فكانت تحب أمواله فقط، وعندما ذهبت ذهبت ..
ظل يقلب في الحذاء وعلامات الاستفهام تتكاثر في رأسه وتتمدد حتى أنها تكاد تنفجر، كيف لها أن تأتى إلى هذا المكان المعزول، هل عادت من السفر إذن، أم أنها تركته على شاطئ الريفيرا حين تسلل الموج واختطفه دون أن تشعر؟! هل قطع الحذاء كل هذه المسافة لتلفظه الأمواج في هذه المنطقة بالذات؟! أي صدفة تلك؟!
صداع رهيب تمكن من رأسه تماماً وامتد إلى عينيه فصارا كجمرتين في أتون مشتعل، أغمض عينيه وشعر بنار تخرج منهما، حاول أن يطرد كل هذه الأفكار والذكريات من عقله تماماً، غلبه النوم ولم يدر كم مر عليه من الوقت، ولكنه استيقظ على وقع أقدام انتهت عند رأسه تماماً، كانت لفتاة في مقتبل العمر، نظرت إليه في استغراب، ثم حولت نظرها إلى الحذاء الملقى على الأرض، مدت يدها بهدوء وأخذته، ثم ذهبت دون أن تنطق بكلمة واحدة.
-----------------------------------
من مجموعتي القصصية (امرأة من أسفل النهر)