الجمعة 29 مارس 2024 01:28 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الكاتب الصحفي ياسر حمدي يكتب: قمة الوفاء

الكاتب الصحفي ياسر حمدي
الكاتب الصحفي ياسر حمدي

الوفاء عملة نادرة هذه الأيام، لا توجد إلا في امرئً توافق ما في قلبه مع ما يتلفّظ به لسانه، والأوفياء أنقياء بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم تلوث إنسانيتهم شوائب الزمان، ولم تعتريهم شوائب الإنسانية، والوفاء بالعهد من أعظم أنواع الوفاء، ولا يتحراه إلا إنسان نقي، كما أن الوفاء خلق قويم، وسلوك إنساني عظيم، لا يتصف به إلا أنبياء القلوب والنفوس.

قمة الوفاء عندما تجد شخص لا تربطك به صلة رحم ويبحث عنك في وجوه الناس، ويستمر في البحث عنك لسنوات طويلة جدًا وهو لا يفقد الأمل في لقائك أو الوصول إليك، ورغم ذلك أنت لم تقدم له شئ عظيم لهذه الدرجة التي تستدعي منه هذا الوفاء النادر وجوده في هذا الزمان، فعلًا قمة الإخلاص عندما تجد هذا الشخص العظيم وهو ويحاول بإستماتة الوصول إليك للإطمئنان على حالك وسماع صوتك لمجرد حبه وإخلاصه لك لأنك لبيت له مطلب بسيط في وقت من الأوقات.

في نهاية شتاء 2011، شائت الأقدار أن ألتقي بإنسان له مطلب بسيط جدًا، وكان العون والتوفيق من الله أن أكون سببًا في تلبية مطلبه البسيط، هذا الإنسان القدير كان يعمل بإحدى برامج التنمية الإجتماعية الخاصة برئاسة مجلس الوزراء بمحافظتي الأم «الفيوم»، وبموجب عملي كصحفي قدرني المولى عز وجل على قضاء حاجته آنذاك.

هذا الشخص الكريم الذي يحمل من إسمه صفات النبلاء الأوفياء المخلصين، قابلته بالصدفة البحتة، أثناء قيامه بعمله المكلف به من رئاسة الوزراء، وطلب مني خدمته، وقتها كان عمري في بلاط صاحبة الجلالة يتخطى التسع سنوات بقليل، وكنت أحظى بعلاقات طيبة وقديرة بعدد كبير من السادة المسؤولين بالمحافظة، ووفقت بقدرة الله على قضاء مطلبه، على الرغم من إقامتي الدائمة بالعاصمة «القاهرة»، لأداء مهامي الوظيفة بإحدى الصحف القومية الكبرى حينذاك.

وبعد تلبية وقضاء حاجته قدم لي شكرًا من نوع خاص، أسعد قلبي وقتها، رغم حزني الشديد على حال وطني الحبيب لما كان يمر به من محن ومنعطفات ومفارقات وتطورات مخيفة، وبعدها بيومين طلب مني مساعدة أخرها، لكن هذه المرة لم تكن له بل كانت لإحدى الأرامل بقريته لتقديم يد العون لها، وكان مطلبها يتمثل في سرعة حصولها على معاش زوجها الراحل، نظرًا لما كانت تعانيه من بيروقراطية الموظفين الغير مؤهلين لذلك، فكانت تعاني أشد المعاناة من طلباتهم التي سحلتها بين الجهات الحكومية المختلفة، من أوراق وأختام لا داعي لها.

وبمكالمة تليفونية من أبي الروحي ومعلمي القدير في هذا المجال الراقي عمنا العظيم الراحل «جمال الشويخ» بالمسؤول الأول بالوزارة، على الفور تسلمت هذه السيدة أوراق حصولها على معاشها، وقتها كنت بعمل معه كعمل إضافي داخل مؤسسته العريقة التي بناها بعرق وجهد وكفاح وشرف وأمانة، وداخل هذا الكيان العظيم تعلمت من أستاذي الجليل الكثير والكثير عن أصول المهنة وطريقة التعامل مع المواقف والصعاب، وبمنتهى الأمانة دائمًا ما تخونني الألفاظ والمعاني والمفردات في وصف عملاق من عملاقة الصحافة العربية، فهو من القلائل جدًا من أبناء المهنة الشرفاء الذين يتمتعون بسمعه طيبة وسيرة عطرة بل ولا يختلف على حبه ونزاهته وشرفه إثنان، أحبني كأحد أولاده وساعدني كثيرًا؛ لست وحدي؛ ولكنه كان بمثابة وزارة التضامن الإجتماعي بالنسبة لكل الصحفيين في وقت، وفي وقت أخر وزير ماليتهم ومستشارهم الخاص، وبدون مبالغة هو صاحب فضل كبير وغير طبيعي على عدد كبير جدًا من أبناء مهنتي السامية.

وبالعودة للشخص الوفي الذي أتحدث عنه، فبعد حصول السيدة الأرملة على معاشها صارت بيني وبينه صلة إعتبرها هو صلة رحم، كان دائم الإتصال والسؤال، وبعد فترة قصيرة انقطع التواصل من جانبه، حاولت الوصل إليه لكن دون جدوى، ومع ضغوط الحياة أهملت في البحث عنه، وبصراحة لم أحاول معرفة سبب إنقطاعه عن الإتصال أو التواصل، على الرغم من أنه وبحسب ما كان يؤكده أنه يحبني حبًا جما، وأني صرت له أخاً بمعنى الكلمة.

إستنكرت لفترة طويلة عدم سؤاله وتواصله، وظنيت أنه لا حاجة له ولا مطلب، وبالتالي لا يقوم بالإتصال، وبعد فترة تناسيت الأمر ولم أعد أفكر فيه، كونه خيب ظني فيه، وأتضح بعد ذلك أنه وفيًا لأبعد الحدود، فهو ظل طوال هذا الوقت الطويل يبحث عني في وجوه الأخرين بوفاء وإخلاص، حتى عرض نفسه للمضايقات والخجل، حاول بإستماته وجود طريقة للتواصل والوصول حتى ولو لشخص يطمئن من خلاله على حالي دون كلل ولا ملل.

وكانت المفاجأة السارة عندما تلقيت إتصالًا هاتفيًا من ثلاث أيام من رقم بدون إسم، وإذ بهذا الشخص العزيز الكريم الوفي يتحدث، وكعادتي بتواصل مع أي شخص يهاتفني، حاولت معرفة من يتحدث معي، وهو يجيب ألم تعرف شخص كان يحبك ويجل لك كل الإحترام والتقدير، في محاولة منه أن يذكرني به فوجئ بي أقول له أين أنت من زمان؟، أنا حاولت الوصول إليك مرات عدة لكني فشلت، غمرتني سعادة بالغة، وانتابني شعور عظيم لم يوصف ظهرت أثاره على ملامح وجهي، حتى لاحظ كل من حولى شدة الفرح والسرور الذي غمر قلبي.

حكى لي خلال المهاتفة أنه حدث له حادث مروري بعد أخر مره كنا نتحدث فيها سويًا بيوم واحد، دخل على إثرها العناية المركزة لوقت طويل، وفقد هاتفه أثناء الحادث الأليم ومعه كل الأرقام المدرجة عليه، وبعد خروجه من المستشفى وتماثل للشفاء ظل يبحث عن هاتفي حتي لحظة المهاتفة، الغريب في الأمر أنه ذهب لمنزل العائلة بقريتي للإطمئنان والسؤال على شخصي، في محاولة منه للوصول لهاتفي لكن لم يتمكن من ذلك، ظل طوال هذا العمر وهو يبحث ويبحث عني بكافة الطرق، وفي نفس الوقت كان ظني فيه على غير الحقيقة، سعى بكل ما أوتي من قوة حتى هاتفني وهو يبكي وبكت معه عيناي.

الملفت للنظر أنه عندما زارني بمنزل الأسرة لم يخبرني أحد بما فعل، هل سهو أم نسيان؟، الله أعلم، والأغرب أنه جاء عزاء والدي، فعلم بوفاته وجاء لتقديم واجب العزاء لكن للأسف الشديد كنت في عزاء صديق أبي الصدوق، نظرًا لأنهم فارقوا الحياة في نفس الساعة، والمدهش أنه توصل لهاتفي عن طريق إبن صديق والدي الصدوق، وبطريقة الإصرار المصحوب بالأمل تكللت مجهوداته المضنية بالتواصل واللقاء ثانية، فبكيت من شدة وفائه وإخلاصه، وتأكد لي أن ظني فيه كان خطأ، وتيقنت أنه الأخ والصديق والحبيب الوفي.. والحقيقة المؤكدة أن قمة الوفاء وجدتها في هذا العزيز القدير.. فتمسكوا بالأوفياء وحاولوا التقرب منهم فهم يحبونكم بإخلاص ولا يسعون في الأرض فسادًا كباقي البشر.

الكاتب الصحفي ياسر قمة الوفاء الوفاء الصديق الصدوق الوفاء عملة نادرة ياسر حمدي