الجمعة 27 يونيو 2025 12:10 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

الكاتبة مروة محمد مصطفى تكتب: الهِجْرَةُ إِلى المَدِيْنَةِ المُنَوَّرِة

الكاتبة مروة محمد مصطفى
الكاتبة مروة محمد مصطفى

عندما عَلِمَت "قُرَيْشٌ" بِأَمْرِ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَتَحَالُفِ الرَّسُولِ ﷺ مَعَ أَهْلِ "يَثْرِبَ" خَافَتْ عَلَى مَكَانَتِهَا وَتِجَارَتِهَا، وأَخَذَتْ تُعَذِّبُ المُؤْمِنِينَ بِكُلِّ قَسْوَةٍ وَغِلْظَةٍ حَتَّى تَرُدَّهُم عَنْ دِينهِم، وَتُرْجِعَهُمْ عَنْ إيْمَانِهِم، فَلَمَّا وَجَدَ الرَّسُولُ ﷺ مَا يُعَانِيهِ أصْحَابُهُ مِنَ الاضْطِهَادِ وَالتَّنْكيِلِ، أذِنَ لَهُمْ بِالهجْرةِ إلَى "يَثْرِبَ" فَخَرَجَ المُسْلِمُونَ مِنْ "مَكَّةَ" سِرًا، تَارِكِينَ وَرَاءَهُم كُلَّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ مَالٍ وَمَتَاعٍ.

أدْرَكَ زُعَمَاءُ "قُرَيْشٍ" أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَوْفَ يَلْحَقُ بِأَصْحَابِهِ فِى "يَثْرِبَ"، فَعَقَدُوا اجْتِمَاعًا كَبِيرًا فِى دَارِ النَّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا جَميِعًا فِى كَيْفِيَّةِ القَضَاءِ عَلَيهِ ﷺ وَعَلَى دَعْوَتِهِ، واستعدَّوا لتنْفيذ خطَّتهم، وَفِى اليَوْمِ الَّذِى حَدَّدَهُ الكُفَّارُ لِتَنْفِيذِ المُؤَامَرَةِ أرْسَلَ اللهُ "جِبْرِيلَ" ـــ عَلَيْهِ السَّلامُ ـــ فَأَخْبَرَ النَّبِىَّ بِمَا دَبَّرَتْهُ "قُرَيْشٌ"، وَأَمَرَهُ ألاَّ يَبِيتَ فِى دَارِهِ فِى هَذِهِ اللَّيْلَةِ، كَما أَخْبَرَهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ بِالهِجْرَةِ إلَى "يَثْرِبَ" ففي يثرب بعضُ المسْلمين الذين عاهدوا الرَّسول ﷺ على نُصْرته، والدّفاع عنه.

بَدَأَ النَّبِىُّ يُعِدُّ العُدَّةَ لِلْهِجْرَةِ، فَذَهَبَ إلَى دَارِ صَدِيقِهِ "أبِى بِكْرٍ" فِى وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَأَخْبَرَهُ أنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَهُ بالهِجْرَةِ، وَأَنَّهُ سَوْفَ يَصْحّبُهُ فِى رِحْلَتِهِ المُبَارَكَةِ، بَكَى "أَبُو بَكْرٍ" مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ، وَعَادَ النَّبِىُّ ﷺ إلَى بَيْتِهِ يَنْتَظِرُ مَجِئَ اللَّيْلِ، وأَمَرَ ﷺ "عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ" أنْ يَبْقَى فِى "مَكَّةَ" لِيَرُدَّ الأَمَانَاتِ الَّتِى كَانَتْ عِنْدّهُ إلَى أَصْحَابِهَا كَمَا أمَرَهُ أَنْ يَنَامَ فِى فِراشِهِ ﷺ فِى هَذِهِ اللَّيْلَةِ، ومع أن عليًّا كان يْدرك ما سيناله من أذى إلا أنه أَطاع رسول الله ﷺ، ونام فى فراشه.

وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّبِىُّ ﷺ مِنْ بَيْتِهِ أحَاطَ الكُفَّارُ بِمَنْزِلِهِ لِيَقْتُلُوهُ وَيُنَفِّذُوا مَا دَبَّرُوه، لَكِنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنْهُم فَخَرَجَ مِنْ بَابِ بَيْتِهِ وَمَرَّ بَيْنَ صُفُوفِهِم فَأَعْمَى اللهُ أَبْصَارَهُم فَلَمْ يَرَوْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْديهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: 9].

ذَهَبَ النَّبِىُّ ﷺ إلى دَارِ "أَبِى بَكْرٍ"، وَخَرَجَا مَعًا فِى اتِّجَاهِ الجَنُوبِ حَتَّى وَصَلا إلى غَارٍ يُسَمَّى غَارَ "ثَوْرٍ" فَاخْتَفَيَا فِيهِ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ "عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" يَنْقُلُ إلَيْهِمَا أخْبَارَ "قُرَيْشٍ" أَوَّلاً بِأَوَّلٍ، وَكَانَتْ أُخْتُه "أَسْمَاءُ" تَحْمِلُ إلَيْهِمَا الطَّعَامَ والشَّرَابَ، أمَّا "عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ" مَوْلَى "أبِى بَكْرٍ" فَقَدْ كَانَ يَرْعَى أَغْنَامَ سَيِّدِهِ فَوْقَ آثارِ الأقدامِ حَتَّى لا تَتْرُكَ أثَرًا يَهْدِى الكُفَّارَ إلَى الغّارِ.

وبينما هو فى غار ثور، كان الكفارُ يبْحثون عنه ﷺ، دخلوا حُجْرته، ولم يجدوا إلا عليًّا بن أبي طالب، وعندما ذهبوا إلى أبى بكر، لم يجدوه، بل وجدوا ابنتيه أسْماء وعائشة، وولَدْيه عبد الله وعبد الرحمن، فأدركوا أن محمّدًا وصاحبه قد هربا.

انْطَلَقَ الكُفَّارُ يُفَتِّشُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بَيْنَ السُّهُولِ وَالهِضَابِ وَالجِبَالِ والوِدْيَانِ، وَبَعْدَ تَعَبٍ وَعَنَاءٍ وَصَلُوا إلَى فَتْحَةِ الغَارِ، قال أحدهم: إنّهما فى هذا الغار، لكن العَنْكبوت كان قد نَسَجَ خيوطه على فَتْحة الغَار، وكانت يمامتان ترقُدَان على بيض لهما.

ردَّ الكُفارُ فى دهشة: كيف يكَونان قد دخلا هذا الغار، وهذا نسيجُ العنكبوت قد مضى عليه أعْوام كثيرة!، وهاتان اليَمامتان ترقُدان على بيضهما، ولم تطِيرا!، فَلَمَّا سَمِعَ "أُبُو بَكْرٍ" أَصْوَاتَهُم قَالَ فِى حُزْنٍ: "يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم نَظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ قَدَمِهِ لَرَآنَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهما"، فَلَمْ يَرَهُمَا المُطَارِدُونَ، وَارْتَدُّوا عَلَى أعْقَابِهِم إلَى "مَكَّةَ" خَائبيِنَ خَاسِرينَ، قال تعالى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة:40].

خرجَ الرسولُ ﷺ وصاحبه أبو بكر من الغارِ بعدَ ثلاثة أيامٍ، فكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَصَاحِبُه "أبُو بَكْرٍ" قَدِ اسْتَأْجَرَا "عَبْدَ اللهِ ابْنَ أُرَيْقِطٍ"، وَكَانَ مُشْرِكًا لَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعَانَ بِهِ لِخِبْرَتِهِ بِطُرُقِ الصَّحْرَاءِ، فَسَلَّمَاهُ بَعِيرَينِ لَهُمَا، وَوَاعَدَاهُ أنْ يَأتِى إلَيْهِمَا عِنْدَ الغَارِ بَعْدَ مُرُورِ ثَلاثَةِ أيَّامٍ، فَلَمَّا مَرَّتِ الأيَّامُ الثَّلاثَةُ جَاءَ "عَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ" فِى المَوْعِدِ المُحَدَّدِ بِالرَّاحِلَتَيْنِ، وسَارَ بِاالنَّبِىِّ وَ"أَبِى بَكْرٍ" فِى اتِّجَاهِ الجَنُوبِ نَحْوَ "اليَمَنِ" حَتَّى يُضَلِّلَ الكُفَّارَ فَلا يَعْرِفُونَ طَرِيقَهُم، ثُمَّ اتَّجَهَ بِهِم شَمَالًا عَلَى مَقْربَةٍ مِنْ شَاطِئ البَحْرِ الأحْمَرِ، وَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا لَمْ يَكُنْ يَسلُكُهُ أَحَدٌ إلا نَادِرًا، لَكِنَّ المُطَارِدِينَ لَمْ يَهْدَأ لَهُمْ بَالٌ طَمَعًا فِى اللَّحَاقِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالحُصُولِ عَلَى جَائزَةِ كانت قد رَصَدَتْها قُرَيْشٌ عبارة عَنْ مُكَافَأَةٍ ضَخْمَةٍ قَدْرُهَا مِائةُ نَاقَةٍ لِمَنْ يَصِلُ إلَى النَّبِيِّ ﷺ وَيَعْرِفُ مَكَانَهُ.

أَسْرعَ "سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ" أحَد الكفار، ومضى فى الطَّريق يبْحثُ عن محّمد ﷺ، حتى رآه مع صَاحبه أبى بكر، ومَا إنْ عَلِمَ سراقةُ بِمَكَانِ النَّبِىِّ ﷺ حَتَّى طَارَ بِفَرَسِهِ خَلْفَهُ، وَمَا كَادَ "سُرَاقَةُ" يَلْحَقُ بِرَكْبِ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى غَاصَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ فِى الرِّمَالِ فَسَقَطَ مِنْ فَوْقِهِ، ثُمَّ قَامَ وَكَرَّرَ المُحَاوَلَةَ، فَغَاصَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ فِى الرِّمَالِ فَسَقَطَ مِنْ فَوْقِهِ، ثُمَّ قَامَ وَكَرَّرَ المُحاوَلَةَ، فَغَاصَتْ قَدَمَا فَرَسِهِ فِى الرِّمَالِ مَرَّةُ أُخْرى فَخَافَ وارْتَعَدَ، وَعَلَمَ أنَّ عِنَايَةَ اللهِ تَحْفَظُ نَبِيَّهُ ﷺ فَاَخَذَ يُنَادِى بِأَعلَى صَوْتِهِ لِيَطْلُبَ الأمَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَمَّنهُ النَّبِىُّ، وَطَلَبَ مِنْهُ أنْ يُعَمِّىَ أعْيُنَ المُشْرِكِيَن عَنهُ ثُمَّ سَارَ الرَّكْبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِى أمَانِ اللهِ.

وفى حوالى منْتصفِ الطَّريق بين مكة ويْثرب، وجدَ الرَّسولُ ﷺ وصاحبُه خيمةً لامرأة اسمها أمّ معْبد، وبجوارِ الخْيمِة شاةٌ ضعيفةٌ هزيلة، سألَ الرسولُ ﷺ أَمّ معبد عن طعام، فأخبرته أنه ليس عندها طعام، فطلبَ منها أن تحضِرَ له وعاء، مسَّ الرسول ﷺ ضَرْعَ الشاة، وهو يقول: (بسم الله) وحلبها، فحلبت لبنًا كثيرًا، شرب منه أبو بكر والرسول ﷺ وأم معبد، وبقى بعضه.

عادَ أبو معبد، فوجد لبنًا كثيرًا، فقال لامرأته: من أين لكِ هذا اللبن؟.

حكت أم معبد لزوجها ما كانَ من أمرِ الرجلين اللذين مرَّا بها، وأن أحَدهما مسحَ على ضْرع الشاةِ، وهو يقول (بسم الله) فتساقط اللبن غزيرًا.

قال أبو معبد: صفى لى الرجل الذى حَلب الشَّاة.

أخذت أمُّ مْعبَد تصف لزوجها رسُول الله ﷺ، فقال لها:

هو محْمد رسول الله حقًّا ثم جرى الرجل، يريد أن يلحقَ بالرسول ﷺ ليعلن إسلامه.

وصل رسولُ الله ﷺ وأبو بكر إلى يثرب، فإذا كثيرٌ من أهلِها فى انتظارهما، علَّقوا الزينات على مَشارف يثرب وشَوارِعها، الرِّجال والأطفال والنساء سُعداء وهم يُنشدون:

طَلعَ البدْرُ عليْنا من ثَنِيَّات الوَداعْ

وَجَبَ الشُّكرُ عليْنا ما دعا للهِ داعْ

أيَّها المبعوثُ فينا جئْتَ بالأمرِ المطاعْ

جئتَ شرَّفت المدينة مْرحبًا يا خيرَ داعْ

مضت ناقةُ الرسول ﷺ في طريقها، وكلُّ واحدٍ يريد أن يكونَ الرسولُ ضيفًا عليه، حتى بَرَكتْ الناقةُ عندَ دارِ أَبي أيوب الأنصاري، فكانَ رسولُ اللهَ ﷺ ضيفًا عليه، ولقد عظَّم اللهُ (عزَّ وجلَّ) أجرَ المهاجرينَ، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [الحج:58 ـــ 59].

الهجرة/النبوية