الإثنين 22 ديسمبر 2025 11:27 صـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

د. محمود ابوعميرة يكتب : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

النهار نيوز

عندما نتمعن ونتدبر هذه الآية الكريمة نعلم أنها ليست مجرد ثناءٍ إلهيٍّ عابر، بل هي شهادة سماوية خالدة، نزلت من فوق سبع سماوات لتلخّص سيرة إنسانٍ اصطفاه الله ليكون رحمةً للعالمين، ومعلّمًا للأخلاق، ومثالًا للكمال الإنساني في أبهى صوره.
إنها آية تختصر عمرًا كاملًا من النور، وتاريخًا من السمو، ومنهجًا أخلاقيًا لا يشيخ ولا يغيب، لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض، كما وصفته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وارضاها، فكل خُلقٍ دعا إليه كان متجسّدًا في سلوكه، وكل قيمةٍ نادى بها كانت حيّةً في أفعاله، حتى صار الخلق عنده عبادة، وصار التعامل مع الناس طريقًا إلى الله.
ومن أروع ما يلفت القلب في أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه بلغ قمة الحِلم حين بلغ الأذى منتهاه، وبلغ عظمة الخلق حين واجه اسوء المعاملات، ففي الطائف، وعندما خرج داعيًا لا طالبًا لسلطان، استقبله السفهاء بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم، وارتفعت الدماء لتختلط بتراب الأرض، لم يرفع دعاء انتقام، ولم ينطق بوعيد، بل رفع صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء وقال: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.
أي قلبٍ هذا الذي يصفح وهو قادر، ويعفو وهو مجروح، ويرجو الهداية لمن آذوه؟
إنه خُلُق العظماء، بل خُلُق من ربّاه الله سبحانه وتعالى على عينه.
ولم تكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم حكرًا على أصحابه أو محبيه، بل كانت شاملة حتى لأعدائه، فيوم فتح مكة، عندما انتصر الحق بعد سنوات من القهر والتعذيب والتشريد، وقف صلى الله عليه وسلم أمام قومٍ آذوه وكذّبوه وحاربوه، وكان بوسعه أن يقول كلمة تهدم تاريخهم، لكنه قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبهذه الكلمة القصيرة، أسقط صلى الله عليه وسلم من قلوبهم الخوف، ومن تاريخهم الدم، وكتب درسًا خالدًا في أن العفو عند المقدرة قمة الأخلاق، وأن القوة الحقيقية ليست في البطش، بل في الصفح، نعم انها الرحمة التي وسعت العدو والصديق وشملت القريب والبعيد.
وعلى الرغم من عظمة مكانته، وسمو منزلته، لم يكن صلى الله عليه وسلم متعاليًا ولا متكبّرًا، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويجيب دعوة الفقير والمسكين، ويقول: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، انه تواضع لا يعرف الكِبر.
فلم تُغره النبوة عن التواضع، ولم يرفعه الوحي عن بساطة الإنسان، فكان صلى الله عليه وسلم قريبًا من القلوب، سهلًا في المعاملة، عظيمًا في الهيبة دون قسوة، كريمًا في القرب دون تصنّع، وهو القائل في حديثه الشريف(ان الله حرم النار على كل هين لين سهل قريب من الناس).
وقبل أن يُبعث نبيًا، عرفته قريش بـالصادق الأمين، وبعد النبوة بقي الصادق الأمين، لم تغيّره الرسالة عن خُلُقه، بل زادته صفاءً ونقاءً، حتى أعداؤه، وهم يحاربونه، كانوا يودعون عنده أماناتهم، لأنه لم يُعرف عنه خيانة قط، ولم يُؤخذ عليه كذبٌ يومًا.
وهكذا علّم صلى الله عليه وسلم البشرية على مر الزمان أن الأخلاق ليست شعارات تُرفع، بل سلوك يُعاش، وأن الصدق هو أساس الدعوة، وأن القيم لا تتجزأ، فكان أرحم الناس بأهله، وألينهم مع زوجاته، وأقربهم إلى الأطفال، يمسح على رؤوسهم، ويمازحهم، ويحمل أمامة بنته زينب رضي الله عنها وارضاها في صلاته، وكان يقول: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، صلى الله عليه وسلم.
وكان شديد العناية بالضعفاء، بالأيتام، بالمساكين، بالخدم، ويقول: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني، إنها أخلاق تبني مجتمعًا، وتصنع إنسانًا، وتؤسس حضارة قوامها الرحمة والعدل والكرامة.
وبذلك يتضح لنا جميعا أن الله سبحانه وتعالى حينما وصف نبيَّه الكريم سيدنا صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، فقد وضع معيارًا أبديًا للأخلاق، وربط الإيمان بالسلوك، والعبادة بالمعاملة، والدين بالإنسانية.
وما أحوج عالمنا اليوم، المثقل بالقسوة والصراع، إلى أن يعود إلى مدرسة محمد، صلى الله عليه وسلم ليتعلّم كيف يكون الخلاف رحمة، والقوة عدلًا، والانتصار أخلاقًا، والحياة رسالة سلام، صلّى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، ما تعاقب الليل والنهار، وما بقي في القلوب شوقٌ للحق، وفي الأرواح حنينٌ للكمال.
وهنا يحضرني شعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه وارضاه حين قال واصفا اخلاقه صلى عليه وسلم : وأحسنُ منك لم ترَ قطُّ عيني ... وأجملُ منك لم تلدِ النساءُ ... خُلِقتَ مبرّأً من كلِّ عيبٍ كأنك قد خُلِقتَ كما تشاءُ.
ومن اجمل ما قيل عنه صلى عليه وسلم ايضا: هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتهُ ... لكلِّ هولٍ من الأهوالِ مُقتحِمِ، نورٌ تضيءُ به الأكوانُ قاطبةً ... شمسُ الهدى أشرقت في أفقها القِيَمُ، لولاكَ يا سيدي ما طابَ الوجودُ ولا سَرَى ... نورُ الهدايةِ في الدجى والظُّلَمِ.
صلّى الله عليك يا علم الهدى، ما تعاقب الليل والنهار، وما بقي في القلوب شوقٌ للحق، وفي الأرواح حنينٌ للجمال والكمال.

محمود ابوعميرة يكتب وانك لعلى خلق عظيم