الخميس 28 أغسطس 2025 02:39 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

د. علي الدرورة يكتب: ”الهموم المحترق”.. رواية سعودية اجتماعية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تختلف الرواية عن حكمة الفلسفة، فالرواية لم تنشأ من العقل النظري، بل من الواقع المعيش، إذ هي أحد إخفاقات السيرة لأشخاص معينين في المجتمع، وهي، أي الرواية، تستوعب فنّ الأحداث الأكثر وضوحًا، حين تتوالى الصور التي سجلتها الذاكرة عبر السنين، وفي ذات الوقت فإنّ الرواية تستوعب روح شخصيات إضافية يستلزمها خيال الروائي من خلال السرد الذاتيّ لمجريات الأحداث التاريخية التي استوحاها السارد في خياله.
وفي رواية سعدون - بطل الرواية - حين همّ بإحراق أوراقه البالية التي جمعها منذ طفولته بكلّ ما فيها من حب ويقين بأهميتها سابقًا، إذ تحولت اليوم إلى هموم، الأمر الذي دعاه للتخلص من تلك الهموم التي تراكمت عبر السنوات حين كان يافعًا وشابًا في مقتبل العمر. إنّ هذه الرواية التي نستعرضها بالتأمل لحيثياتها هي رواية اجتماعية تعكس ما يعانيه فرد ما، وهو جزء من المجتمع، الذي يمثل نسيجًا واضحًا من مكامن المجتمع الذي طالما تحدث عنه الثيولوجيّون والفلاسفة والعلماء ووظّف أحداثه الساردون والشعراء عبر العصور.
حديث كونديرا عن الرواية لا يقلّ جمالًا عن رواياته؛ لأنه يضيء أفكاره بأمثلة عديدة من بعض الكتاب ومن كتبه.
فصل التأليف الموسيقي عظيم، من أجمل ما يمكن أن تقرأ، يمتزج فيه حب الرواية بالموسيقى واختلاط البنية المعمارية للاثنين، كونديرا موسيقي بقدر ما هو روائي.
والرواية، كما نعلم، هي فنّ أدبي نثري طويل يحكي قصة خيالية أو واقعية وسواء عاشها السارد أو لم يعشها، وسواء سمع لمجريات أمورها أو لم يسمع، وهذا يعني أنه وظّف خياله الجامح، وإن كانت قصة ذات حبكة درامية قصيرة فهي تتكون من سلسلة من الأحداث المتصلة المربوطة بمجتمع ما، ومن ثم تطورت عبر الزمن، وتشتمل على شخصيات متعددة أو شخصية واحدة كما في رواية أوراق سعدون المحترقة بكلّ ما فيها من هموم، إنّ المشاكل والتحديات التي واجهت سعدون في مجتمعه جعلته بطلًا للرواية التي هي أكبر الأجناس الأدبية.
ويرى الروائي ميلان كونديرا برؤية أدبية رائعة حيث ينظر إلى الرواية باعتبارها الشكل الفني الأسمى. وهو يعرّف الرواية بوصفها «الشكل النثري العظيم الذي فيه المؤلف يستكشف على نحو شامل، بواسطة ذوات (شخصيات) تجريبية، بعض ثيمات الوجود العظيمة». ويقول في كتابه «فنّ الرواية»: «الرواية هي تأمل في الوجود كما يُرى من خلال وسط الشخصيات المتخيلة».
والهموم المحترقة رواية اجتماعية تسلط الضوء على الانفعالات النفسية لبطل الرواية الذي تكالبت عليه الهموم من كلّ حدب وصوب. إنّ أوراق "سعدون الحائر"، وهو عنوان الرواية الأخيرة للروائي السعودي سلمان محمد العيد، الصادرة عن دار الوهيبي بجمهورية مصر العربية.
تتناول الرواية قصة أحدهم الذي شاءت الأقدار أن يكون عاشقًا للكتابة، ومحبًّا للأقلام والأوراق، وقضى أربعين عامًا في الكتابة الانطباعية، التي تتناول القضايا التي تلفت نظره، ويتفاعل معها، وكان يجمع كلّ ما يكتبه في صندوق من الورق، وقد عاد إليه بعد فترة زمنية طويلة، وظلّ يستعرض ويتفحص بعض تلك المقالات بكلّ شغف، تلك التي كانت عبارة عن "هموم" حياتية وفردية خاصة، وهي ذات بعد اجتماعي عام، ففي كلّ مقطوعة أو ورقة أو مقالة أو خاطرة من تلك الأوراق، أي: (الهموم)، يرتفع مستوى القلق والحزن والأسى لديه، وتلك الانفعالات تتكرر كلما أمعن النظر في تلك الأوراق البالية التي هي في مجملها قضايا حيوية مهما تقادم العهد بها، والتي انتهت أن أصدر قرارًا ذاتيًا بأن يحرق كلّ تلك الهموم، ويلقي برمادها في البحر ليريح نفسه من تلك الهموم وإلى الأبد.
تلك هي خلاصة القصة، لكن كيف بدأت وانتهت الحكاية بهذه الصورة، وما القيمة الفنية والأدبية، التي وصفها الروائي سلمان العيد، وهو صاحب خبرة أدبية لاسيّما أنّ لديه خبرة إعلامية وثقافية وادبية لسنوات طويلة جدًا، إلى جانب أنه أصدر 15رواية كلّها تعالج قضايا المجتمع إلى جانب كتب عديدة في الشعر والنقد والاقتصاد، وفي الرواية معترك الحياة من صور العبرة من كلّ تلك الأحداث.
يمكن الإجابة عليها من خلال قراءة هذه الرواية التي أكدت على عدة حقائق: إذ أراد الكاتب - من خلال بعض أحداث الرواية - أنّ كلّ شيء لا بُدّ له من معرفة، فالموهبة شيء والمعرفة شيء آخر، وكلاهما يدعمان بعضهما بعضًا، وتظهر هذه الفكرة من خلال تتلمذ بطل الرواية "سعدون الحائر" على يد أستاذه في اللغة العربية "أحمد عوّاد"، الذي لم يشأ - حسب الحوارات بين الطرفين - أن يصقل موهبته في الكتابة بالطرح النظري، بل بالممارسة العملية، حتى إنّه قال له بأنّ كلّ شيء يمكن الكتابة حوله، حتى الحزن والفرح، وأكّد له بأنّ من يطمح لحرفة القلم أو مهنة الحرف عليه أن يمارسها، وبغير الممارسة لا يمكن أن تتم وترقى إلى التطور.
وإنّ الرواية أرادت - كما يتضح من حوادثها - أن تقول بأنّ الكاتب الحقيقي هو الذي ينطلق من المعاناة الذاتية إلى المعاناة بمعناها الأعم، بمعنى أنّ هناك جانبًا نفسيًا يدفع الكاتب للكتابة. وفي هذه الفكرة دعوة صريحة، أو تسليط الضوء على أزمة بعض المثقفين في كونهم يسبحون في بحار غير بحارهم الاجتماعية، وينطلقون من هموم غير هموم أوطانهم ومجتمعاتهم، وهذا ما بدأ به "سعدون الحائر" في كتابته، فلم يُولِ أيّ عناية للمحسنات البديعية، ولا مناهج الكتابة المتعارف عليها، ولا اختيار المفردات اللغوية الرنانة، وإنّما الكتابة بأيّ وسيلة عن الهم العام (أو الهموم العامة)، لذلك حفلت الرواية بجملة من الصور التي عايشها البطل وتأثر بها، من قبيل الظلم الاجتماعي الذي مرّ به، وتواضع الثقافة الصحية، وبعض الأزمات النفسية التي أدت إلى عواقب وخيمة، والسبب فيها عدم الوعي وعدم العناية، موردًا قصصًا في هذا الشأن، مثل قصة معاق لم يعتنِ به أحد، فعاش ومات ولم يظلم ولم يسرق ولم يدرس ولم يحب ولم يكره، فكان "همًّا" من هموم "سعدون الحائر".
والى جانب ذلك فقد جاء عنوان الرواية "الهموم المحترقة"، فمن خلال جملة الموضوعات التي سردها العيد على لسان بطل الرواية: الحائر على نفسه، وقرأها من ذلك الصندوق الورقي الضخم، قد تكون آمالًا قد تحققت ينبغي الحفاظ عليها، وقد تكون آمالًا أيضًا لكنّها لم تتحقق، وقد تكون علاقات غير سويّة من قبل فئات تستغل الظروف لممارسة القهر بحقّ الفئات الأقلّ ضعفًا، مثل قسوة الأب، أو اضطهاد المعلّم لبعض طلابه تحت مبرر الضعف الاستيعابي، أو الميل للعنف والقوّة لتحقيق النزوات الذاتية، من قبيل الاغتصاب الذي تطرقت له الرواية بعرض حكاية طالب قصد مدرسته، فاختطفه آخر، فكانت النهاية للاثنين، فالأول بات أسير عقدة الاغتصاب، والآخر طاله عقاب الله في الدنيا قبل الآخرة.
وهناك رواية من تأليف ميخائيل ليرمونتوف، صدرت عام 1840، وتم تصنيف تلك الرواية من أوائل الروايات النفسية في التاريخ، حيث كان بطلها هو شاب صغير السن يدعى "بوشكين"، له سمات خاصة تدفعه للتمرد بشكل دائم لكنه تمرّد بلا قضية، ما يعيد التساؤل حول مفهوم كلمة البطولة، وسعدون بطل رواية الهموم المحترقة الذي دفعة للتمرد بحرق همومه والخلاص منها، يتشابه مع بوشكين بطل الرواية، فسعدون وبوشكين في هموم واحدة.
أما المعاناة، أو الهموم قد تأتي من الذات الإنسانية، بمعنى أنّ الواحد قد يصنع لنفسه همومًا تقتله وتفتك به، وقد تكون الهموم عامة، تفعل فعلها في ذات هذا الإنسان. إذ نظنّ أنّ الكاتب أراد أن يقول بأن المثقف الحقيقي (الكاتب، الأديب، الشاعر، الخطيب... إلخ)، يشعر بمعاناة مجتمعه أكثر من غيره، فتتحول المعاناة إلى هموم، والخيارات قد تكون إصلاحية يمارسها، وقد تكون انتحارية، و"سعدون الحائر" اختار طريقة لاأبالية، فقام بحرق همومه من أجل راحة نفسه، دون أن يجزم بأنّ خياره سليم، فربّما تعود لديه الحيرة، لذا لم يؤكد الكاتب بأنّ بطل روايته قد انتهت همومه، ولكن الذي لوحظ بأنّ لديه القابلية لأن تطاله الهموم، حتى لو حاول الهروب منها.
والرواية تحدثت عن حوادث مرّ عليها أكثر من أربعين عامًا، ما يؤكد بأنّ الرواية بمثابة ذكريات خطّها "سعدون الحائر" على الأوراق، بوسائل مختلفة، بعضها بأقلام حمراء وزرقاء، وبعضها بالأسود وبأقلام الرصاص، فضلًا عن أنّ الأوراق مختلفة الأشكال والألوان، وبالمقاسات المختلفة، وتلك الذكريات تم استعادنها، فزادت من اكتئابه، بالتالي فالحديث هنا يتطرق إلى الحياة الاجتماعية في المجتمع المحلي (السعودي بالتحديد، كون الكاتب سعوديًا، من المنطقة الشرقية، جزيرة تاروت)، بدليل أنّه أورد حكاية أحد فنيي الكهرباء الذي لقى حتفه على عمود الكهرباء، وذلك قبل أن تنعم البلاد بخدمة الكهرباء عبر التوصيلات الأرضية لا الهوائية، فكان الموقف "همًّا" لكنّه انفرج بفعل التقدم الذي تشهده البلاد في الوقت الحالي. بالتالي يمكن القول بأنّ أحداث الرواية تدور في حقبتي السبعينيات ومطلع الثمانينيات، بدليل عدم وجود أيّ مسمّى للحواسب الآلية، أو الهواتف الجائلة، أو حتى السيارات الفاخرة، فالحياة - في الرواية - كانت بسيطة جدًا وغير معقدة، لكنّ هناك مراكز صحية ومدارس ومزارع. ويمكن الاستدلال ببعض حوادث الرواية عن واقع المجتمع المحلي خلال تلك الحقب التي هي النقلة النوعية من عالم الريف والبحر إلى عالم النفط والتطور الصناعي الذي غيّر أوجه الحياة.
أما من الناحية الفنية، فقد اعتمد الكاتب عرض الأحداث باللغة العربية الفصيحة، فقد خلت الرواية من العبارات الشعبية التي كما قد تعوّدناها في أغلب الروايات، وكان الحديث بضمير الماضي الغائب، وفي هذا الجانب وجدنا أنّ هناك فسحة في مجال السرد التي ظهرت في الوريقات التي قرأها سعدون الحائر.
وبطل الرواية - كما أسلفنا - هو "سعدون الحائر"، ذلك الذي تأثر في بداية حياته بأحد مدرسي اللغة العربية، ومن الواضح أنّه كان يسعى لتنمية ذاته ثقافيًا، لدرجة أنّه كان يأخذ الصحف اليومية الملقاة في النفايات، ويقوم بتنظيفها، وقراءتها، لذلك تكوّنت لديه حصيلة ومعلومات كثيرة، جنّدها في الكتابة الذاتية، والمفارقة في الأمر أنّه لم يحاول أن يؤلف كتابًا، أو يلتحق بمؤسسة صحفية (على سبيل المثال)، كي يصقل مهارته ويمارس هوايته ويخدم نفسه ومجتمعه، كما لم نعرف عنه سوى أنّه متقلب المزاج، حتى في طموحاته، فتارة يريد أن يكون خبازًا، وتارة يريد أن يكون بنّاءً، وتارة ثالثة يريد أن يكون مدرسًا، فهو "حائر" في حياته واختيارات مهنة يعتاش منها.
وربما هي أزمة المثقف المحلي الذي يبحث عن "مسار" حتى حدا بأحد الكتّاب المحليين في كتابه الموسوم بـ "المثقفون والبحث عن مسار". فهل يمكن القول بأنّ كلّ مشتغل في المجال الثقافي هو بالضرورة متقلّب المزاج، مناخي الأطوار؟!
الرواية - هنا - حفلت بالكثير من المشاهد والصور الاجتماعية، والمواقف المؤلمة أحيانًا، والمبهجة في أحايين أخرى. أما عن بيئة الرواية فلم نجد البيئة الحقيقية ولكنها لم تتشابه إلى حدٍّ كبير في الرواية ولا بأيّ إشارة لأيّ مكان، ولكن بالنظر لبعض المعطيات، فمن الواضح أنّها تحكي الحياة في محافظة القطيف أو جزيرة تاروت، فوجدنا البحر والأشجار والعيون وما شابه ذلك من بيئة زراعية، أو غير ذلك، إذ إنّ البيئة تلعب دورًا مهمًا جدًا في سلسلة الأحداث. ويغلب على الرواية المعاناة الذاتية التي هي نابعة من سلبيات الواقع المعيش في تلك الفترة الزمنية التي نظنّ أنّها تعود إلى أوائل حقبة الثمانينيات.
___________________
رئيس منتدى النورس الثقافي الدولي.

cd925e7ea842.jpg
e577cc56735a.jpg
الهموم/المحترقة