السبت 23 أغسطس 2025 04:20 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

أيمن سلامة : كيف تميزت الإبادة الجماعية للأرمن عن سائر الإبادات ؟

النهار نيوز

تسببت جريمة الإبادة الجماعية – جريمة الجرائم الدولية - في جميع مراحل التاريخ ، في إلحاق ضرر جسيم بالإنسانية ، مما يؤكد أن جرائم الإبادة الجماعية قد وقعت قبل اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لمنع و العقاب علي ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية عام 1948 .

كانت الايادي السوداء العثمانية ارتكبت جريمة الجرائم الدولية - الإبادة الجماعية – بحق الأرمن في عام 1915، ومَثلّت هذه الجريمة النكراء أحد أصرخ النماذج التي استلهمها الفقيه البولندي " رافائيل ليمكن " أول من نبه الجماعة الدولية عن خطورة جريمة الإبادة الجماعية " .

بالرغم من الأنماط الخمسية التي يشكل أي منها جريمة الإبادة الجماعية ، لكن السلاطين العثمانيين أبوا إلا أن يرتكبوا كافة الأنماط التي يشكل أي منها هذه الجريمة ، وفقا لشهود عدل أبرزهم الدول التي ناصرت وحاربت يد بيد مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولي - ألمانيا و النمسا - واعترفت هذه الدول مؤخراً بإبادة الأرمن علي يد العثمانيين أثناء الحرب العالمية الأولي ، ولذلك فقد تفردت الإبادة الجماعية عن سائر الإبادات الجماعية الأخري .

صَدمت جريمة الابادة الجماعية ، البشرية فى ضميرها، والنظام العام العالمى فى جوهره ، والكرامة الانسانية فى صميمها، نتيجة لهول الجريمة الشنعاء ، وفداحة أفعالها النكراء ، والتى دونت بمداد أسود فى حافظة التاريخ ، ويكفى الجريمة من تدليل ودلالة على أنها اى الجريمة تعكس “ انكار حق الوجود بالنسبة لجماعات انسانية بأسرها “

إن إبادة الجنس البشرى هى إنكار حق الوجود لجماعات بشرية بأكملها، كالقتل الذى يمثل إنكار حق الشخص فى الحياة، هذا الانكار لحق الوجود يتنافى مع الضمير العام للجماعة الدولية، ويصيب الإنسانية بأضرار جسيمة الأمر الذى لا يتفق والقانون الأخلاقى وروح ومقاصد الأمم المتحدة .

إن الحق فى معرفة الحقيقة – الذي تنكره الحكومات التركية المتعاقبة - عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان لا يقتصر على كونه حقا قانونيا أصيل من حقوق الإنسان الأساسية بل يتخطى ذلك لكونه حقيقة إنسانية لصيقة بالفرد، و الحق فى معرفة الحقيقة لا ينصرف أو يعنى بالماضي، بل يرتبط بإدراك الحاضر الواقع ويمتد ليتحكم فى تشكيل واقع المستقبل.

يتنافى الانكار التركي مع القيم الأخلاقية والانسانية والقانونية ، و يأتى ذلك العناد التركى لرفض حقيقة ما وقع للأرمن عام 1915 بالرغم من عقد الدولة العثمانية ذاتها، المحكمة الخاصة فى أسطنبول عام 1919 لمحاكمة القادة العثمانيين الذى ارتكبوا جرائم حرب، وجرائم بحق الانسانية، وتحديدا بحق الأرمن أثناء الحرب العالمية الاولي، وبالرغم من الشهادات والتقارير الموثقة للسفراء و المبعوثيين الرسميين لدول أجنبية عديدة للخروقات الجسيمة لحقوق الانسان التى ارتكبتها السلطات العثمانية بحق الأرمن أثناء الأحداث الابادية، وبالرغم أيضا من الاقرارات الرسمية العديدة التى صدرت عن حكومات وبرلمانات العديد من الدول، والتى تقر أن ما وقع للأرمن على يد العثمانيين فى عام 1915 يعد جريمة ابادة جماعية بموجب القانون الدولى .

فالحكومة التركية الحالية، تزعم أن القتلى من الأرمن فى عام 1915 لا يتجاوز 300 ألف قتيل، وقضوا نحبهم أثناء ترحيلهم الى صحراء الشام فى العراقو سورية، ونتيجة الجوع والعطش والظروف الجوية السيئة، ولم تطلق عليهم رصاصة واحدة من القوات التركية التى كانت ترافقهم و تؤمنهم .

يُشار فى ذلك الصدد الى أن اتفاقية الابادة الجماعية التى تحظر أفعال الابادة الجماعية ، لم تتحدث فقط عن قتل أعضاء الجماعة باعتبار القتل هو النمط الوحيد المستخدم لابادة جزء أو كل الجماعة المستهدفة ، لكن الاتفاقية، كما سبق أن وضحنا تحدثت أيضا عن إلحاق أذى جسدى أو روحى خطير بأعضاء من الجماعة، و اخضاع الجماعة لظروف معيشية يراد بها تدميرها كليا أو جزئيا، جلى أن، التعداد الوارد فى الاتفاقية المشار اليها، للأنماط اى الأشكال الخمسة للابادة الجماعية، يتغيى الحفاظ على الجنس البشرى من الافناء، بواسطة الأنظمة المستبدة، التى لا تقيم للانسانية وزنا، ولا تنظر للجماعات البشرية فى لحظة تاريخية نظرة انسانية مجردة و متجردة من اى تمييز أو اذدراء .

لا غُرو أن كشف ومعرفة الحقيقة مسألة قانونية أولية مهمة، ليس فى حد ذاتها بل توطئة لتحقيق غايات سامية متعددة الجوانب، حيث تختلف هذه الغايات سواء كانت غايات نبيلة – مثل المساهمة فى استعادة السلام وصيانته- وغايات أخرى – مثل محاربة الإفلات من العقاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان فى المستقبل أو الحيلولة دون حدوثها، وتلبية مطالب الضحايا والدفاع عن حقوقهم، وإبعاد اللاعبين السياسيين السابقين عن الساحة السياسية، وإعادة تأسيس سيادة وحكم القانون.

إن معرفة الحقيقة عن الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان، تمنح المجتمعات القدرة على منع تكرار أحداث مماثلة للتى وقعت، وتسهل فى حالات أخرى عمليات المصالحة وإعادة البناء حيث ينظر إلى معرفة الحقيقة على أنها ضرورة جوهرية لمعالجة التصدعات والانقسامات التى تحدث فى السياقات المحلية فى الفترة التى تلى إقصاء النظم الشمولية والاستبدادية، و هذا ما ينطبق تماما على السياق التركى .

يمثل اليوم الرابع و العشرين عام 1915م اليوم المظلم في تاريخ الأرمن و البشرية ،حيث لفظت المجازر حممها ، حين أصدر الظالم العثماني فرمانه الأغبر بإبادة الأرمن غدرا ، وإبعادهم غيلة ، و تعذيبهم جبرا ، وتهجيرهم خارج وطنهم قسرا ، و أطلق الحاكم العثماني و لم يكن حكما عادلا ، رصاصة البداية للخطة الممنهجة و المعدة من قبل لإبادة الأرمن الجماعية ، فاستغرق حصد و تصفية المفكرين الأرمن ، و أعلامهم من أهل الثقافة و الرأي و الإبداع ساعات بطيئة في عمر الزمن و كئيبة في نفوس البشر في مشهد كئيب ليوم عصيب في الخامس عشر من أبريل عام 1915م .

و بالرغم من أن القتل عدته اتفاقية منع الإبادة المشار إليها أحد أنماط الإبادة الجماعية ، بيد أن الوحش الإبادي التركي الذي دشن قرن الإبادة الجماعية القرن الماضي ، آثر أن يسد علي أحفاده أتراك اليوم المنكرين للجريمة أية ثغرة يفلتون منها ، فارتكب كافة الأفعال الإبادية المختلفة التي نصت عليها المادة الثانية من الاتفاقية المشار إليها ، فصارت الدماء التي سالت من الضحايا الأرمن جراء الأفعال الإبادية التي ارتكبها الأتراك السلاطين مدادا أحمرا كتبت به الاتفاقية المشار إليها ، كما أشار لهذه الدماء الذكية الفقيه " ليمكن " في أطروحاته التي مهدت للاتفاقية .

ومهما طالت السنون ، ستظل ذاكرة التاريخ الإنساني ملطخة بدماء المليون و نصف الأرمني من الإطفال والنساء والعجائز و الرجال الشرفاء الذين قضوا بسنابك القتل و قيظ الصيف و زمهرير الشتاء في صحاري الشام ، فهذه الدماء سطرت تاريخ أرمينيا في تركيا ذاتها ، فشريعة الغاب لن تدوم طويلا ، و لن يستمر ضمير الإنسانية في سبات و غفوة و خدر إن إصرار ذلك الشعب الأرمني الجبار علي إحياء قضيته في ضمير العالم المتحضر و التصدي لمحاولات تركيا التهوين من الجرائم المرتكبة تارة ، و الإنكار تارة أخري للقضية الأرمنية برمتها إن الحقيقة ضرورية لاحترام كرامة الضحايا و مصلحة المجتمع الدولي بأسره ، فيضحي ذلك الإقرار صمام أمان لمنع تكرار هذه الجرائم مستقبلا فالإنكار لا يعني إلا الاستمرار ، وإذا كان من المحتمل أن يؤدي اقرار الحكومة التركية بالجرائم التي ارتكبت بحق الأرمن إلي تخفيف معانة الضحايا المغبونين في قبورهم ، فمن المؤكد أن من شأن ذلك أن يحقق الشفاء الروحي لأسر و محبي هؤلاء الضحايا الباقين علي قيد الحياة . إن الإقرار بالذنب إعلاء للعدالة ، و لا يعد تصفية لحساب ولكن تهدئة للنفوس المكلومة من أسر الضحايا و تدعيم للتضامن الإنساني ، و إنهاء لثقافة الإفلات من العقاب ، وحفظ الجنس البشري ممن يَذبحون و يُنكرون ، و يمسح العار عن جبين الحكومات التركية الذي لايزال يعرق خجلا وفشلا

ختاما، يجب على الحكومة التركية أن تنحاز للقيم الإنسانية وتوقر حقوق الضحايا وعائلاتهم وتسوي هذا النزاع مع الحكومة الأرمينية وفقا لقواعد القانون الدولي والعدالة.