الخميس 28 مارس 2024 03:42 مـ
النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز
  • جريدة النهار نيوز

رئيس مجلس الإدارة د. يحيى عبد القادر عبد الله

رئيس التحرير جودة أبو النور

المقالات

د. جار الله الغامدي يكتب: معلم

د. جار الله الغامدي
د. جار الله الغامدي

صباح يومٍ ما، فاجأني ولي أمر بحضوره إلى مكتبي، حين كنت (مديرًا) لواحدة من مدارس المنطقة الجنوبية، تقدم الرجل نحو المكتب حتى وضع كلتا يديه عليه، ثم بادرني بقوله: أريد المعلم فلان، و-حقا-أثار استغرابي!

فأنا أعرف هذا الأب من قبل وأعرف جيداً أن المعلم(فلان) لايدرس ابنه، فسألته: ولماذا تريده؟ فأجابني -نصا-: أريد أن أقبله بين عينيه!
وقبل أن أخبركم عن سبب هذا الطلب، أريد أن أعرض لكم طرفا مما علمته ورأيته عن هذا المعلم:
-على الرغم من أن سكنه يبعد عن المدرسة مسافة ٥٠ كيلو مترًا تقريبًا إلا أنه كان من أول الحاضرين، إذ أصل إلى مدرستي الساعة ال٦:١٥ وأجده قد سبقني، يتجول حول أسوار المدرسة، يرقب أبناءه الطلاب، ثم يتوجه إلى مسجد المدرسة ليعطي حصة قرآنية لعدد من طلابه قبل بدء الطابور الصباحي.
- لايكتفي بتعليم القيم والمباديء الأخلاقية والدينية لطلابه عن طريق التلقين، بل كان مربيا بالقدوة، إذ وجدته يوما يؤدي صلاة الضحى مع طلابه في فصله، ويوما آخر وجدته صائما مع طلابه تنفلا، وقد ظهرت آثار تربيته على طلابه، فهم أصحاب الصف الأول في صلاة الظهر عندما يؤدونها في مسجد المدرسة.
- لم يكن تميز طلابه في الجانب الأخلاقي والديني فقط، بل هم متميزون أيضا في أداءهم العلمي، حتى ليظن المطّلع على (دفاترهم) أنهم طلاب من الصفوف العليا للابتدائية أو المرحلة المتوسطة، كما كان لهم تألق في أداء فقراتهم الصباحية للإذاعة المدرسية.
نعود إلى قصتنا،،
سألت هذا الرجل: لماذا تريد أن تقبله بين عينيه؟
فقال:
كان لنا جار لايحضر صلاة الجماعة ولا يعرف المسجد، وله ابن يدرس عند هذا المعلم، وكان حريصا على تنشئة طلابه على صلاة الفجر في المسجد جماعة، وقد صب جهوده على ترغيبهم وحثهم، فشرح لهم أهمية الفجر وفضلها عند الله، ووضع شعارًا في فصله مضمونه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله)، ثم وضع لهم مكافآت تشجيعية، منها : الجلوس في المقدمة، والخروج للفسحة مبكرا، والمشاركة في الأنشطة الرياضية، ووضع أوسمة على صدور الطلاب الذين حضروا الفجر.. والكثير من المحفزات التي يبتكرها هذا المعلم والذي كان لها الأثر العجيب في تنافس الطلاب وحرصهم على الصلاة، وكان منهم ابن جارنا الذي لايصلي، حيث أبلغ والدته بأنه سيتغيب عن المدرسة في اليوم الذي لايصلي فيه الفجر، وحدث أن فاتته الصلاة يوما فرفض الذهاب فعلا للمدرسة، وعلمت والدته جديته للأمر، وأفرحها جدا أن يكون ابنها بهذا الحرص، فكانت له خير عون، إذ ينهض الفتى الصغير مع الأذان ويتوضأ وتساعده والدته في ارتداء الثقيل من اللباس لبرودة الشتاء، وتظل تنتظره عند باب المنزل حتى يعود، إذ لم يكن يفصلهم عن مسجدهم سوى شارع..
وبعد فترة وحين لاحظ الأب ذلك طلب من والدته أن تمنعه من الذهاب لأنه يسبب إحراجا له بين جيرانه وزملاء عمله، فهذا الطفل استطاع الحضور والوالد لم يستطع؟!
لكن الأم أبلغته أن الابن مصرّ ولن يتراجع، فاستثقل والده الأمر وعلم أنه مامن بدّ لحضوره..
كان يتحامل على نفسه ويحضر متأخرًا عند التشهد الأخير ثم صار يبكر فيحضر الركعة الثانية وقليلا قليلا صار يحضر الركعة الأولى، ثم توالت الأيام حتى صار هو وابنه يخرجان إلى المسجد سويا بعد الأذان يدًا بيد.
ليس هذا فقط، بل أصبح الأب يقعد في مصلاه حتى الإشراق ولايفارق المسجد في صلواته وعند فرائضه.
أفلا يستحق هذا المعلم أن نقبل رأسه وعينيه؟
قلت له : بلى يستحق، ولكن ليست هذه غايته، بل غايته ماوصل إليه هذا الابن ووالده، وإكرامك أنت وجيرانك له بالدعاء خير جزاء.
وقد حدثتني لاحقا والدة أحد طلبته -وهي طبيبة سعودية وزوجة لطبيب- بعد أن اضطروا للانتقال من المنطقة ونقل ابنهم من المدرسة فقالت-وهي تقسم على ماستقول-:لن نفقد شيئا هنا أكثر من فقدنا لمعلم ابننا، لقد تعلمت منه أنا وزوجي من خلال ماعلمه لابني الكثير من السلوكيات والقيم والسنن التي كانت غائبة عنا.
هذا درس عملي شاهدته وعاصرته لدائرة واحدة من التأثير تُحدثها في المحيطين بك، فينتقل التأثير الى دوائر أخرى محيطة بها، لينتشر أثر خير صغير فعلته إلى أناس وأماكن وحتى أجيال أخرى، يظل معها مثوبة عملك الأول جاريا ماجرت هذه الدوائر..
فجزى الله كل معلم متفان مخلص خير الجزاء، وجزى الله ذلك المعلم بأحسن مماعمل وقدم، وجعل هذه الكلمات شهادة حق له في ميزان أعماله الصالحات.