أشرف محمدين يكتب: الهم – أقوى الجنود على وجه الأر


هكذا رآه الحكماء وهكذا عبّر عنه سيدنا علي بن أبي طالب حين عدّد عشرة من أقوى ما خلق الله على هذه الأرض فقال: إن الجبال أقوى من الحديد، والحديد تقهره النار، والنار يطفئها الماء، والماء يحمله السحاب، والسحاب تسيّره الرياح، والرياح يقف أمامها الإنسان، والإنسان يذهب عقله السكر، والسكر يغلبه النوم، والنوم يغلبه الهم، حتى استقر القول على أن الهمّ هو أقوى جنود الله في الأرض.
صراع القوى في الكون
ولو تأملنا هذه السلسلة المترابطة لوجدناها لوحة عميقة ترسم كيف تتصارع القوى في الكون. فكل قوة يُظن أنها الغالبة، يأتي ما يكسرها ويُضعفها. الجبال التي تبدو صامدة لا تتحرك، يقهرها الحديد حين يُفجّرها، والحديد مهما اشتد صلابته يلين في نار مشتعلة. النار مهما بدت طاغية يمكن لقطرات ماء أن تطفئها. والماء على عظمته يعلوه السحاب فيرفعه حيث يشاء الله. والسحاب رغم رحابته تذروه الرياح فتفرّقه. والرياح بكل شدتها يقف في وجهها الإنسان فيبني السدود والموانع. لكن هذا الإنسان نفسه إذا أسكر عقله فقد سلاحه، ويغلبه السكر. ثم يأتي النوم فيغلب السكر، وأخيرًا … يقهر الهمّ النوم، ويستيقظ المرء من فراشه مثقلاً لا يعرف راحة ولا طمأنينة.
الهم.. سجن بلا جدران
الهمّ إذن ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل هو قوة جبارة تُذلّ الجسد والعقل معًا. هو سجن داخلي لا جدران له، لكنه أشد صلابة من أقسى السجون. كم من إنسان قوي الجسد، عظيم الجاه، لكن الهمّ أذلّه وجعل قلبه خائفًا وعقله شاردًا - وكم من أناس صغار في أعين المجتمع، لكنهم بنقائهم ورضاهم لم يجد الهمّ طريقًا إلى قلوبهم.
الهمّ يطارد الإنسان في يقظته ومنامه، فإذا حاول أن ينام أفسد عليه النوم، وإذا استيقظ تبعه إلى نهاره. وهو بهذا يتفوّق على كل الجنود التي ذكرها سيدنا علي رضي الله عنه، لأنه العدوّ الذي لا يُرى، والخصم الذي يسكن صدرك فلا تستطيع منه هربًا.
حكمة الابتلاء
لكن - هل الهمّ قدر محتوم لا مفر منه؟ هنا تكمن حكمة الله. فالهمّ جندي من جنوده، وسلاح من أسلحته، يختبر به قوة الإنسان وصبره. الهمّ قد يكون عقوبة على خطأ، وقد يكون ابتلاءً للرفعة. أحيانًا يكسر الله بالهمّ قلوب عباده ليعودوا إليه. وأحيانًا يجعل من الهمّ حافزًا ينهض بهم ليغيّروا واقعهم.
هموم الحياة المعاصرة
وفي واقعنا اليوم لا يكاد يخلو بيت من الهم: همّ الرزق - همّ الأبناء - همّ المستقبل - همّ المرض - همّ العلاقات الإنسانية الممزقة. لكن الحقيقة أن التعامل مع الهمّ هو الذي يصنع الفارق. هناك من يستسلم له فيبتلعه الظلام، وهناك من يجعله دافعًا ليقترب من الله، فيجد في الدعاء والذكر راحة تذيب همومه.
دواء الهم
ولذلك جاء في الحديث الشريف: “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا.”
والتوكل هنا دواء للهم، لأن من يوقن أن رزقه مكتوب، وأن الله أرحم به من نفسه، يخفّ عن قلبه الحمل الثقيل.
ليس المنتصر الأخير
إن الهمّ أقوى الجنود، نعم لكنه ليس أبدًا المنتصر الأخير. فالمنتصر هو من يلجأ إلى الله، ويحوّل الهمّ إلى طاقة صبر ورضا. وفي النهاية، الهمّ نفسه يتبخر حين يشرق اليقين في القلب.
وهكذا، ندرك أن الهم ليس مجرد شعور عابر أو حالة نفسية طارئة، بل هو جندي من جنود الله، يسير بأمره، ويُنزِل على اللوب لحكمة يعلمها سبحانه. قد يكون ابتلاءً ليميز الله به الصابر من الجزوع، وقد يكون رحمةً تُذكِّر الإنسان بضعفه وحاجته الدائمة إلى مولاه.
الهم يطحن الكِبْر، ويكسر شوكة الغرور، ويُعلِّم القلب أن السعادة لا تُشترى بالمال ولا تُنتزع بالسلطة، وإنما تُزرع في الروح بالرضا واليقين والتسليم.
وليس الهم نهاية المطاف، بل هو بابٌ يفتحه الله ليرشد عبده إلى الدعاء، وإلى الانكسار بين يديه، وإلى أن يرفع يديه قائلًا: اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. عندها يتحول الهم من عاصفة جارفة إلى مطرٍ يغسل القلب من شوائب الدنيا، ويعيده إلى طهارته الأولى.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: “من جعل الهموم همًا واحدًا همَّ المعاد، كفاه الله سائر همومه.” وفي ذلك إشارة بليغة إلى أن الهم الأكبر الذي ينبغي أن يشغلنا هو مصيرنا الأبدي، أما هموم الدنيا فهي أهون عند الله من جناح بعوضة.
فلنجعل من همومنا سلّمًا نرتقي به إلى الله، لا قيودًا تكبل أرواحنا. ولنعلم أن كل همٍّ مهما عَظُم فهو مؤقت، زائل، يختبر الله به صدورنا، لكنه لا يدوم؛ فالله هو الذي قال:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
الهم جندي ثقيل، نعم، لكنه في الوقت ذاته مُعلِّم خفي يُعلّمنا أن القوة الحقيقية ليست في احتماله، بل في أن نرفعه إلى السماء ونُسلِّم أمرنا لمن بيده مفاتيح الفرج.